دور التربية الصهيونية
في تكوين المجتمع الصهيوني المحارب
الدكتور جبر الهلّول
يعرِّف "شمعون بيريس" ـ الذي هو ليس بالشخصية المجهولة أو محدودة
التأثير في "دولة اليهود"، إنه واحد من بناة هذه "الدولة" الكبار،
وهو واحد من أبرز شخصيات جيل الصهاينة المؤسسين الثالث، بعد الجيل الأول الذي طرح فكرة
"الدولة اليهودية"، "ثيودور هرتسل"، والجيل الثاني الذي أسس بالفعل
هذه "الدولة"، جيل "حاييم وايزمان"، و"ديفيد بن جوريون"،
ويشكل "بيريس" مع "اسحق رابين" ومعهما "موشي دايان"،
ثلاثة من أهم عناصر الجيل الثالث، بصماتهم واضحة في أركان الدولة، ودورهم معترف به
في شتى أرجائها، وأداؤهم بارز في أهم ركائزها: المؤسسة العسكرية اليهودية ـ عن كيفية
تربيته ونشأته يقول: «وإذ قطعت من العمر شوطًا، علمني (جدي) دراسة التلمود، فكان يقرأ
علي كل يوم بضعة سطور من نصوص سرية شارحًا بالتفصيل حججها القانونية المعقدة». «ونشأت
بيقين أن الإنسان خلق ليخدم الخالق، بأن يرعى وصاياه وأن اللعنة ستحل بكل من ينتهك
حرمة السبت المقدسة أو يخضع لإغراء أن يأكل طعامًا غير مباح أو يصلي دونما تركيز للكلمات
[على الكلمات] ومعانيها… فيما جسّد لي "يوم الغفران" أبهج أيام السنة…»(1).
فالتلمود كان بالنسبة لبيريس ولمعظم اليهود القانون المطلق الذي يشكل المصدر
التربوي الأساسي الذي تربوا على أحكامه وقيمه والمبادئ التي يحتويها.
لذا «كانت فلسطين في مخيلة الطفل شمعون كما هي في مخيلة الكثيرين من اليهود
عبارة عن جنة حيث أنهار اللبن والعسل تجري تحت الأقدام… وحين وصل ذات يوم من شهر حزيران
في العام 1934 وكان عمره (11) عامًا… كان الفتى شمعون يستيقظ من الحمى بين ساعة وأخرى
(كان قد أصيب بالحمى نتيجة تغير المناخ) ويسأل والده الذي سبق العائلة إلى فلسطين!!:
أحقًا أنا في إسرائيل؟ فترد والدته بلغة عبرية مقعرة: نحن هنا إلى الأبد لقد تركنا
بولونيا إلى الأبد، وذلك حتى تزرع في ذهن الفتى هذه العقيدة اليهودية العدوانية إلى
الأبد، وكأن هذه الأرض بلا أهل!!»(2). فمن خلال تربية "شمعون بيرس" يتضح
المناخ الأسري الذي يتربى فيه اليهود بشكل عام، حيث أصبح بيريس فيما بعد عضوًا نشيطًا
في الحركة الصهيونية التي استطاعت أن تنشئ "دولة اليهود في فلسطين" وقد قاد
في حرب عام 1948 بعض وحدات "الهاجاناه" قبل أن يصبح من قيادات وزارة الدفاع
الإسرائيلي ومن ثم تقلد مناصب عديدة حكومية وعسكرية وحزبية.
"فشمعون بيرس" كأنموذج ثمرة الفكر الصهيوني التربوي الذي انبثق من
الفكر الديني اليهودي الذي يمثل مجرد تمسك اليهود به القوة المعنوية التي كرست الصهيونية
جهودها من أجل المحافظة عليها. وقد أشار "الفريد ليلينتال" إلى تلك القوة
في اليهودية وكيف لمست ذلك الحركة الصهيونية واستغلته بقوله: «...إرث (اليهودية) تناقلته
الأجيال، خلفًا عن سلف، وحفظه كل يهودي عن ظهر قلب من دون أن يعرف معناه، أو مغزاه.
وهذا الإرث، يرسخ في ذهن اليهودي منذ الصغر الفكرة القائلة: "بأنك مختلف
عن سائر البشر.. فأنت يهودي ..ومن واجبك أن تساعد إخوانك اليهود..". وهذه الفكرة
عبارة عن شعور إيجابي يتعلمه اليهودي منذ الطفولة بالغريزة، وينمو مع نموه ..ويصبح
معها مستعدًا لتقبل فكرة الوطنية ( تحديد الهدف والإيمان به)، عن طريق الدين.. بعد
أن انطبعت جذورها في أعماق قلبه..
ولقد لمس زعماء الصهيونية تأثير هذه التربية على عقلية النشء اليهودي، فحرصوا
كل الحرص على تلقين هذا النشء، وهو في بيئته وبين أهله هذه التعاليم ليتقبلها، فيما
بعد، كحقيقة غير قابلة للجدل أو التعديل»(3). كما سعت إلى تعزيز ذلك عن طريق إتباع
خطة تعليمية وبرنامج تربوي، شكل أحد أهم مقومات القوة المعنوية اليهودية في العصر الحديث.
وقد شكلت الحركة الصهيونية لجانًا ومنظمات وهيئات هدفها بث الأفكار الصهيونية التي
دعا إليه قادتها أمثال "هرتسل" بين اليهود لاسيما في أوروبا عن طريق الدروس
في العبرية وفي التلمود وفي الفكر السياسي الصهيوني. وكانت الصهيونية ترى أن التعليم
يشكل بالنسبة إلى دعوتهم العمود الفقري الذي يتوقف عليه نجاحها في استقطاب اليهود روحًا
وجسدًا للعمل في خدمة مشروعهم الاستعماري، من خلال تنشئة أجيال يهودية إسرائيلية مستعدة
لحمل أيديولوجيتها(4). ولإيضاح ذلك لا بد من دراسته بشيء من التفصيل على النحو التالي:
- التربية والتعليم في واقع المشروع الصهيوني:
لقد انبثقت الخطة التربوية التعليمية الصهيونية من خلال مبادئ الأيديولوجية
الصهيونية المستوحاة من الفكر الديني التي بلورت صورة المجتمع الصهيوني التي يمكن أن
نوجزها بالنقاط التالية:
- إن اليهود المنتشرين في جميع أصقاع الأرض هم مجموعة بشرية واحدة تشكل
"الشعب اليهودي" المتفرد بصفات خاصة عن مجموع البشر جميعًا في تكوينه وأهدافه.
- هذا "الشعب اليهودي" المنتشر في أصقاع الأرض مرتبط دينيًا وسياسيًا
بأرض محددة يحتلها الطرف الآخر الذي لم يغادرها أبدًا وعليه ـ الشعب اليهودي ـ أن يهاجر
إليها مجددًا لإقامة كيان سياسي عليها وفق المزاعم الدينية لكي يمارس دوره الحضاري
والقيادي للعالم.
- يجب أن يكون هذا الكيان خاصًا "بالشعب اليهودي" فقط، لذا يجب اقتلاع
الطرف الآخر من مكانه والحلول محله، وعدم قبول التعايش معه في أي وضع أو ظرف كان.
- قناعة الطرف الأول ـ اليهودي ـ أن الطرف الثاني أصحاب الأرض يتمسكون بعقيدة
دينية منافسة متطرفة لا تقبل التنازل والمساومة في حقوقها ومبادئها وغاياتها.
فهذه المبادئ تشكل الثوابت الأساسية في العقلية الصهيونية من أقصى اليمين إلى
أقصى اليسار، ولا يمكن الاختلاف حولها. بل على العكس من ذلك تشكل تلك الثوابت عامل
توحد فيما بين اليهود جميعًا، وتنشط عامل التنافس عندهم في بناء المشروع الصهيوني.
ولا يمكنهم من حيث الأصل تجاوز أي منها، أو التراجع عن بعضها، أو إظهار الضعف في التمسك
بأي منها. فهي جوهر العقيدة اليهودية ومنهاج الحركة الصهيونية، والوسيلة الوحيدة للمحافظة
على ما تم إنجازه من المشروع الصهيوني الذي يسعون إلى إتمامه من جميع جوانبه وإنجاز
جميع مراحله التي لم ينجز منها إلا بعضها لغاية الآن.
إن مبادئ وثوابت الحركة الصهيونية التي تشكل قاعدة المنهج التعليمي والخطة التربوية
الإسرائيلية لم تكن حديثة حداثة الحركة الصهيونية ذاتها، بل هي قديمة قدم وجود العقيدة
اليهودية التي استوحت منها أيديولوجيتها وأفكارها ومنهاج عملها. وقد أرادت الصهيونية
أن تستغل ذلك في خدمة مشروعها الاستعماري في المنطقة. ولعل ذلك يتضح من الأهداف التربوية
التي أرادت تحقيقها في المجتمع الصهيوني لتعزيز القوة المعنوية فيه، ومن أبرز تلك الأهداف:
- المحافظة على التراث اليهودي ونشره وتعميقه بين الناشئة اليهود في إسرائيل
عن طريق إحياء اللغة العبرية، وتحويل إسرائيل لتصبح مركز الاتصال بين يهود العالم أينما
وجدوا، والممثلة الرئيسة لمنجزات الشعب اليهودي.(5)
- التعلق بالأرض والعمل فيها واحتضانها ليتم توحيد اليهود عن طريق التصاقهم
بها، وتكوين مجتمع موحد من أشتات اليهود التي تجمعت على أرض فلسطين. والإسهام في بث
الطمأنينة في نفوسهم، وإقناعهم بأن الأرض التي اغتصبوها بالعدوان هي أرضهم التي وعدهم
إلههم بها.(6)
- بث القيم اليهودية الدينية والثقافية وتنمية الشعور بالتفوق وإحياء الذاكرة
اليهودية المليئة بالإحساس والاضطهاد والظلم التاريخي بفقدانها مكانتها التي تستحقها
وفق الرؤى الدينية التوراتية والتلمودية التي يؤمنون بها، وتعزيز الولاء للوطن الجديد
والارتباط به مصيريًا. وهذا ما أشار إليه القانون الرسمي للتعليم في إسرائيل عام
(1953) الذي نص على: «إرساء الأسس التربوية على قيم الثقافة اليهودية ومنجزات العلم
وعلى محبة الوطن والولاء للدولة وللشعب اليهودي، وعلى ممارسة الأعمال الزراعية والحرفية
وعلى التهيئة لوجود رائد، والعمل على تشييد مجتمع تسوده مبادئ الحرية والمساواة والتسامح
والتعاون ومحبة الجنس البشري»(7).
وقد فسرت الحكومة الإسرائيلية عام (1959) معنى العبارة "قيم الثقافة اليهودية"
الواردة في نص القانون المذكور بـ: «ستسعى الحكومة في المدرسة الابتدائية كما في المدرسة
الثانوية والدراسات العليا، إلى تعميق الوعي اليهودي بين شبان إسرائيل وعلى ترسيخ جذورهم
في ماضي الشعب اليهودي وفي تراثهم التاريخي، وعلى تقوية العلاقات الأخلاقية التي تربط
بين هؤلاء الشبان وبين اليهود في العالم. هذه العلاقات التي تنمو في وعي المصير المشترك
وفي الاستمرار التاريخي الذي يوحد بين يهود العالم جميعًا عبر الحدود والأزمنة»(8).
وقد قامت وزارة التربية الإسرائيلية بترجمة الأهداف التي حددها نص قانون التعليم
لعام (1953) إلى تفصيلات وأهداف سلوكية وضعتها بين أيدي المعلمين ليشرفوا على تحقيقها
على أرض الواقع بشكل عملي. وقد ركزت الوزارة على أن أهم ما تقوم به المدرسة هو تقديم
المعرفة والإلمام بالثقافة اليهودية عند الطالب، وتعميق شعوره بالتعاطف وبالانتماء
إلى الأمة اليهودية التي تعاني في أرض الشتات.(9)
- ومن أهم أهداف التربية اليهودية تنمية الروح العسكرية في المجتمع الإسرائيلي،
من خلال تنشئة الأجيال اليهودية تنشئة عسكرية، تبدأ من مرحلة الطفولة المبكرة في المدرسة
ومن ثم في الجامعة. والمدرسة والجامعة بالنسبة لليهود هما عاملان للأمن على المدى البعيد،
فهما أكثر أهمية من السلاح المتطور الذي يشكل عامل أمن على المدى القريب(10). لذلك
كان اهتمام القيادات الصهيونية بالتربية والتعليم منذ وطئت أقدامهم أرض فلسطين. فقد
عملت على تجييش الفرد اليهودي، وتعبئة وجدانه، بأسس تربوية دموية مرتكزة على الفكر
الديني اليهودي الذي يفرض القتال عليه ويجعله قانونًا للحياة من أجل الوصول إلى الهدف
المتعلق "بأرض الميعاد". ولعل ذلك يتضح من المنظمات الشبه عسكرية التي تشرف
عليها وزارة التربية ووزارة الدفاع الإسرائيلية التي تجعل من المدارس الإسرائيلية
«أشبه ما تكون بالثكنات العسكرية منها بالمؤسسات المدنية»، وذلك كمنظمة "الجدناع"
ومنظمة "الناحال"، ومن المقررات المدرسية التي يتربى عليها الطالب اليهودي
وتبني شخصيته الفريدة في نظرتها للآخر، وكيفية التعامل معه، وفي نظرتها للحياة التي
تعتمد على القوة المعنوية والمادية للاستمرار فيها.
ولإدراك أهمية التربية والتعليم في تنمية الروح العسكرية في المجتمع اليهودي
كعامل أساسي في القوة المعنوية التي يعتمد عليها اليهود في مواجهة الآخر غير اليهودي
لاسيما الذي يسكن الأرض التي منحهم إياها إلههم "يهوه"، لابد من الوقوف عند:
- دور المقررات المدرسية في بناء المجتمع العسكري:
فالتربية عند اليهود لها أثر واضح في بناء المجتمع المحارب الذي تعتمد عليه
في تحقيق أهدافها الاستعمارية، وليست المنظمات العسكرية والجيش إلا ثمرة لتلك التربية
المركزة التي تقوم بها القيادات اليهودية. وقد أشار "يهوشفاط هركافي" إلى
ذلك بقوله: «...صحيح أنه بفضل التصنيف الجيد، وأعمال التربية والتأهيل، يخرج الجيش
الإسرائيلي نوعية تفوق أحيانًا ما عهدناه في المجتمع، لكن الجيش الإسرائيلي يعتبر عامة
صورة مصغرة للمجتمع، ويجب عدم التطلع إلى البدء بالرعاية التربوية للفرد عند بلوغه
سن (18) عامًا، لدى التحاقه بالجيش الإسرائيلي، وكأن شيئًا لم يحدث قبل ذلك وأن كل
شيء يبدأ مع التجنيد في الجيش. فالتربية تبدأ في البيت، وفي روضة الأطفال، وفي المدرسة،
وفي حركة الشبيبة. ويعتبر الجيش الإسرائيلي جزءًا فقط من جهاز تربوي كامل، من شأنه
أن يعمل من خلال التنسيق الكامل للأهداف والقيم...»(11).
فجهاز التربية والتعليم في الكيان الصهيوني يحظى باهتمام كبير ورعاية بالغة
ماديًا ومعنويًا، وذلك لأنهم ينظرون إلى التربية على أنها صناعة دقيقة جدًا في تكوين
أثمن كنز لدى الدولة وهو جيل الشباب، الذي يقع على عاتقه حمل الأيديولوجية الصهيونية
فكرًا وسلوكًا باعتباره جزء من المشروع الصهيوني الذي يتوقف نجاحه واستمرار بنائه عليه
أولًا وأخيرًا. وقد أشار إلى أثر تلك التربية الموجهة التي يتلقاها اليهودي حتى قبل
هجرته إلى فلسطين الباحث الإسرائيلي "يشعياهو بن يوراث" بقوله: «منذ السابعة
من عمري، تربيت على العمل العسكري من أجل احتلال فلسطين. ولقد نشأت وترعرت في النمسا
مع الإحساس بأنه سيجيء يوم نحتل فيه فلسطين بقوة السلاح، وعلموني على الاستهتار بالمواطن
العربي، ونشؤوني على الإيمان بأن أرض إسرائيل لنا. وعندما هاجرت إلى فلسطين وعشت في
"الكيبوتس"، لم يربوني على احترام الإنسان العربي، ولم يزرعوا في نفسي أي
إحساس بأن العرب واليهود سيعيشون معًا. والتفكير الخفي والعلني هو أن العرب سيرحلون
ونحن سنبقى»(12). وهكذا نجد أن الأطفال اليهود يمتصون الأيديولوجية الصهيونية من دون
نقد أو تفكير، لأنهم يتلقون ذلك في سن مبكرة لا تؤهلهم إلا على حفظ المعلومات التي
تبث إليهم عن طريق المقررات المدرسية التي تجعل من الأيديولوجية جزءًا نمطيًا من تقاليدهم،
يصعب التخلص منها. وتصبح تلك الأيديولوجية التي اكتسبوها عن طريق الإيحاء بمثابة الإطار
المرجعي الذي يرجع إليه الأطفال عندما يكبرون.(13)
ولمعرفة أهمية التربية في صناعة الجيل اليهودي الملتزم بالأيديولوجية الصهيونية،
نحاول أن نقف بشكل مختصر عند المراحل الدراسية التي يمر بها اليهودي في إسرائيل حيث
نجد في الحضانة ورياض الأطفال تتركز التربية في هذه المرحلة على تعليم الطفل الطقوس
الدينية اليهودية المتعلقة بالأعياد كما تركز على حقائق مهمة أساسية عن جغرافية فلسطين
ومناخها. أما في المرحلة الابتدائية فيركز في المنهاج على اللغة والأدب العبري، والتوراة
والتاريخ والجغرافية والعلوم الطبيعية والرياضيات واللغة الإنكليزية، واللغة الفرنسية
أو العربية، ...لكن أهم مادتين في هذا المنهاج في هذه المرحلة هما التوراة واللغة العبرية.
حيث تدرس التوراة للتلميذ عن طريق ربطها بتاريخ بني إسرائيل كما تفسر الصهيونية الدولة
اليهودية، ويقوم معلم المادة بأخذ طلابه إلى الآثار الدينية القديمة والخرائب التاريخية
التي يزعم أنها ترجع على عصر التوراة.(14) أما بالنسبة لمادة اللغة العبرية فقد حرص
المسؤولون الإسرائيليون على تعليم أطفالهم اللغة العبرية باعتبارها ركيزة أساسية لإقامة
المشروع الصهيوني على أرض فلسطين حتى تكون لغة تفاهم وتقارب بين اليهود، وتكون بمثابة
وعاء لدمج المهاجرين وتكيفهم، وبالتالي تكون أداة لصناعة الوحدة الفكرية والثقافية
داخل المجتمع الإسرائيلي(15). أما في المرحلة الإعدادية التي هي آخر مرحلة تشرف عليها
وزارة التربية هي امتداد للمرحلة السابقة، حيث تعتمد الوزارة على برنامج لتثقيف الصغار
وتعويدهم على الطقوس اليهودية والعادات الخاصة بالديانة اليهودية، حيث يتعلم الطفل
اليهودي منذ الصغر من خلال هذا البرنامج على فرديته العرقية، وكره الآخر لاسيما العربي
الذي "يحتل" أرضه، وتذكيره بشكل مبالغ فيه بالأهوال التي تعرض لها اليهود
عبر التاريخ على يد المسيحيين والمسلمين، ويركز البرنامج على بث الصهيونية عن طريق
إعطائها الصبغة الدينية التي ستحقق الخلاص لليهود.(16)
نماذج التربية الصهيونية في الكتب المدرسية الإسرائيلية:
فقد ورد في كتاب "عن طريق الكلمات" للصف الرابع: «جاء الطلائعيون
(اليهود) لحرث أرضهم، بسلام وطمأنينة، لكن جيرانهم العرب لم يعجبهم ذلك وحاولوا طردهم
من أرضهم وفي مرة أخرى كانوا يحرقون الحقول، ويسرقون الأبقار أو المواشي من القطيع
وحتى إلحاق الأذى بأعضاء المجموعة»...و«لكن الطلائعيين لم يتمكنوا من العيش بهدوء دائمًا،
فقد كانت رياح شريرة تهب عند الجيران (العرب) وكانت شوكة المحرضين تقوى باستمرار، وظل
العرب يحاولون المس بأرواح اليهود وممتلكاتهم»(17). وتبدو الصورة السلبية للعربي في
المناهج الدراسية واضحة من أجل تعزيز وترسيخ الكراهية داخل اليهودي تجاهه، حتى بات
كلمة "عربي" في المدارس ورياض الأطفال تعني شتيمة(18)، وقد ورد في أحد الكتب
الدراسية النص التالي: «قائد عربي يجلس وهو يضحك ضحكة شيطانية للغاية، ينظف أنفه بمنديل
رديء ثم يفتح منضدته ويخرج خنجرًا دمشقيًا مصقولًا، يداعبه وهو يفكر متلذذًا بأنه بعد
قليل ستهتز إسرائيل حينما يبدأ الربح النهائي، وقد سافر بخياله إلى تل أبيب بسيارة
مكشوفة وحولها أنهار من الدم، والعرب جميعًا يرددون أدعية واحدة»(19).
ولملاحظة أثر الكتب المدرسية في بناء الشخصية اليهودية نستعرض بعض ما جاء في
دراسة قام بها باحث يهودي لنيل درجة الدكتوراه، حيث طلب من (84) طفلًا إسرائيليًا أن
يكتب كل واحد منهم رسالة لطفل فلسطيني يتصور أنه يعرف عنوانه ويريد أن يقول له شيئًا.
وقد أورد الباحث بعض النماذج من هذه «الرسائل الموجهة إلى أطفال فلسطينيين من صغار
الإسرائيليين، ومعظمهم من "الكيبوتزات" وفي مرحلة الدراسة الابتدائية، ومنها
واحدة تخيل فيها طفل لا يزيد عمره على (9) سنوات بأنها ستصل عبر البريد إلى طفل فلسطيني،
سماه محمودًا، وفيها يقول له: "سألك عن شيء لا أفهمه، فهل تجيبني؟ لماذا نبدو
بمظهر حسن وجميل، وأنتم تبدون سود البشرة وبشعين ولكم رائحة؟ لماذا عندما أكون خارج
البيت وأشم رائحة كريهة، ألتفت دائمًًا وأرى أنها من واحد منكم يمر بقربي؟". وكتب
آخر في العاشرة من عمره رسالة لطفل فلسطيني سماه محمدًا وظن أن رسالته ستصل إليه أيضًا
بالبريد، وبدأها يقول: " إلى محمد المسموم..أتمنى لك أن تموت..شالوم لي، وليس
لك". فيما كتب طفل إسرائيلي آخر عمر(9) سنوات رسالة لنظير فلسطيني بالعمر... وأطلق
عليه اسم "ياسر": "يا عربي يا حقير وغبي، لو رأيتك قرب بيتنا فسأشرب
من دمك يا ياسر". وكتبت طفلة في التاسعة من العمر تقول لطفلة فلسطينية:
"إلى الغبية والحمارة.. لا أريد أن أذكر اسمك في مقدمة الرسالة، كي لا أتسخ
..توقفي عن رمي الحجارة علينا، وإلا "شارون" سيزوركم بالبيت ويحمل معه عقارب
وأفاعي وفئرانًا". أما الأغرب فكانت طفلة في الثامنة من عمرها، كتبت تقول لنظيرة
لها بالعمر فلسطينية: "شارون سيقتلكم، أنتم وجميع سكان القرية، سيحرق أصابعكم
بالنار. أخرجي من قرب بيتنا يا قردة. لماذا لا تعودون من حيث جئتم؟ لماذا تريدون سرقة
أرضنا وبيوتنا؟ وها أنا أقدم لك هذا الرسم لتعرفي ماذا سيفعل بكم شارون...هاهاها".
ولم يكن الرسم سوى لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو يحمل بيديه رأس طفلة فلسطينية ينزف
دمًا»(20).
كذلك نستعرض استطلاعًا أجراه باحث يهودي يدعى "أدير كوهين" وهو أحد
المحاضرين في كلية التربية في جامعة حيفا، على طلاب الصف الرابع والخامس والسادس في
مدارس حيفا، وقد شارك في الاستطلاع (520) طالبًا، وقد طلب منهم «أن يكتبوا حول خمسة
مواضيع هي:
أولًا: ما هي التداعيات التي يثيرها سماع كلمة عربي؟.
ثانيًا: كتابة قصة أو وصف قصير أو موضوع إنشاء حول لقاء مع عربي.
ثالثًا: تلخيص كتاب قرأه ينطوي على وصف لعربي، وشرح مؤثراته عليه.
محاولة شرح أسباب النزاع مع العرب.
خامسًا: المجاهرة بآرائهم فيما إذا كان إحراز السلام ممكنًا، وفيما إذا كان
ممكنًا قيام حياة صداقة وتعاون مع العرب»(21).
وكانت محصلة الاستطلاع تشير إلى:
1- مستوى الخوف من العربي عال بشكل مذهل. فكانت نسبة 75% من الإجابات تصف العربي
بـ "خاطف الأولاد"، و"القاتل" و"المخرب" و"المجرم"..
2- تجريد العربي من شخصيته الآدمية ووصفها بشكل سلبي. ففي حوالي 80% من الإجابات
وصفت العربي بأنه: "يعيش في صحراء" و"راع بقر" و"ذو سحنة
مخيفة" و" قذر ونتن" و" تنبعث منه رائحة كريهة".
3- أما بالنسبة لحق العرب في بلادهم فكانت نسبة 90% من الطلاب قد تنكرت لذلك
وصرحت بضرورة قتلهم أو ترحيلهم.
4- أما بالنسبة حول أسباب النزاع العربي الإسرائيلي، فقد تجاهلت نسبة كبيرة
من التعرض له بالتفصيل واكتفت بجمل مقتضبة تقول فيها: "إنهم (العرب) ينوون قتلنا
...وتشريدنا من البلاد..واحتلال مدننا.. وقذفنا في البحر".
5- أما نظرتهم إلى السلام فإنها تنحصر ضمن المفهوم الصهيوني، فهم يريدون السلام
الذي يعني تسليم العرب بالسيادة الإسرائيلية على "أرض إسرائيل الكاملة".(22)
كذلك ولملاحظة أثر العقيدة الدينية اليهودية وغرسها في الجيل اليهودي عن طريق
التربية الدينية في الكتب المدرسية نستعرض ما قام به العالم الأمريكي هـ. تامارين الذي
عمل مدة طويلة في إسرائيل، حيث أجرى استفتاء جاء بنتائج بليغة وذات مغزى كبير.
أعد تامارين (1066) استمارة ذات محتوى واحد، أجاب عليها كتابة 563 فتى و503
فتيات من مختلف الصفوف في مختلف المدارس. وقد تطرقت الاستمارة لسفر يشوع بن نون: في
الكتاب المقدس، الذي يدرّس في المدارس الإسرائيلية من الصف الرابع حتى الثامن(23).
وقد ذكر عدة مقاطع من سفر يشوع ثم قال: «أجب من فضلك على السؤالين:
1. هل تعتقد أن يشوع بن نون والإسرائيليين قد تصرفوا تصرفًا صحيحًا أو غير صحيح،
اشرح لماذا لديك هذا الرأي بالذات؟
2. لنفترض أن الجيش الإسرائيلي قد أحتل خلال الحرب قرية عربية، فهل هو جيد أو
سيئ أن يتصرف على هذا النحو مع سكان هذه القرية، كما تصرف يشوع بن نون مع شعب أريحا…
اشرح لماذا؟» وكتب تامارين: «إن إبادة الناس بالجملة التي قام بها يشوع بن نون، ليست
المثل الوحيد من هذا النوع، في الكتاب المقدس. ولقد اخترته لأن: "سفر يشوع بن
نون" يحتل مكانًا خاصًا في نظام التعليم الإسرائيلي…
وقد وزعت هذه الاستمارة في مدارس تل أبيب وقرية بالقرب من الرملة وفي مدينة
شارون ومستعمرة معوتشد، الخ…
ولنذكر بعض الأجوبة. كتب تلميذ من مدرسة في مدينة شاورن: «كان هدف الحرب هو
الاستيلاء على البلاد من أجل الإسرائيليين. ولذلك فقد تصرف الإسرائيليون تصرفًا حسنًا
باحتلالهم المدن، وقتلهم سكانها. وليس من المرغوب فيه أن يكون في إسرائيل عنصر غريب.
إن الناس من مختلف الأديان يمكن أن يؤثروا تأثيرًا لا حاجة إليه على الإسرائيليين».
وكتبت فتاة من مستعمرة "معوتشد": «لقد تصرف "يشوع بن نون"
تصرفًا حسنًا، بقتله جميع الناس في أريحا ذلك لأنه كان من الضروري احتلال البلاد كلها
ولم يكن لديه وقت لإضاعته على الأسرى».
كانت الأجوبة التي كانت من هذا النوع تشكل ما بين 66 و95 بالمائة حسب المدرسة
والمستعمرة أو المدينة. وعلى سؤال هل يمكن في عصرنا، تصفية جميع سكان قرية عربية محتلة،
أجاب 30 بالمائة من التلاميذ بشكل قطعي "نعم"!(24).
إن التربية اليهودية كانت وستبقى أحد أهم مقومات القوة المعنوية المبنية على
أسس العقيدة اليهودية والأيديولوجية الصهيونية، باعتبار أن القوة كانت وستبقى محل سعي
اليهود لأنها الوحيدة التي تمكنهم من ممارسة مسلكهم في الحياة بغية الوصول إلى تحقيق
أهدافهم فيها. يضاف إلى ذلك الجو العام للمجتمع الإسرائيلي الذي يساهم بشكل غير مباشر
في تعزيز القوة المعنوية التي تنمو داخل الشخصية اليهودية في إسرائيل، حيث يشاهد الطفل
أباه وهو يرتدي بزته العسكرية للذهاب إلى الجيش ليوم في كل شهر، ولشهر كامل في كل سنة.
ويشاهد أخوه أو أخته الأكبر منه سنًا وهما في سن الثامنة عشرة من عمرهما في الجيش،
أو في خدمة الاحتياط. وإذا كان يسكن في إحدى مدن أو قرى التنشئة الجديدة، فمعلمته جندية
تؤدي واجبها العسكري في المدرسة فيما الآخرون أعضاء السلك الزراعي العسكري يؤدون قسطًا
من خدمتهم بصفة مدرسين في النادي، أو قادة شباب، أو موظفين ثقافيين(25). لذا تنمو شخصية
الطفل ضمن بيئة أيديولوجية عسكرية تعده لحمل أعباء المسؤولية التي يفرضها عليه واقع
المشروع الصهيوني الذي يولد داخله وهو جزء لا ينفصل عنه.
فالبيت والمدرسة والإعلام والمناخ العام الذي يسود المجتمع الإسرائيلي يساهم
بشكل مباشر وغير مباشر في إيجاد تربية صهيونية موجهة لتكوين مجتمع المحاربين الذي يصعب
فيه إيجاد الصفة المدنية سواء كانت في الأطفال الصغار ذكورًا وإناثًا الذين تغرس فيه
الأيديولوجية الصهيونية أم في الكبار الذين ينفذون تلك الأيديولوجية في واقعهم اليومي
ويتمترسون خلفها في صراعهم الوجودي على أرض فلسطين التي تشكل بالنسبة لهم القاعدة التي
ينطلقون منها للسيطرة على "أرض الميعاد"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
(1) شمعون بيريس:
: معركة السلام، يوميات شمعون بيريس، ط 1، ترجمة عمار فاضل/مالك فاضل، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن 1416/1995. ص 20-21.
(2) حلمي الأسمر:
مطلوبون: بيريز، ط1، دار البيرق، عمان الأردن 1997. ص 8.
(3) الفريد ليلينتال:
ثمن إسرائيل،ط3 ،مطابع دار الكشاف، بيروت، 1954. ص152-153.
(4) عبد الله عبد
الدائم وآخرون: الأبعاد التربوية للصراع العربي الإسرائيلي، ط1، مركز دراسات الوحدة
العربية، بيروت،1986. ص243. عادل توفيق عطاري:
التربية اليهودية في فلسطين المحتلة والدياسبورا، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1980.
ص9.
(5) منير بشور وخالد
مصطفى الشيخ يوسف: التعليم في إسرائيل، ط1، منظمة التحرير الفلسطينية مركز الأبحاث،
بيروت، 1969. ص40. مجلة دراسات استراتيجية: موقع التعليم لدى طرفي الصراع العربي الإسرائيلي
في مرحلة المواجهة المسلحة والحشد الأيديولوجي، العدد (52)، 2001. ص14.
(6) عدنان أبو عمشة:
التربية اليهودية الصهيونية، ط1، ألف باء الأديب، دمشق، 1997. ص10. منير بشور..: المرجع
السابق، ص44. مجلة دراسات استراتيجية: المرجع السايق، ص24.
(7) منير بشور وخالد
مصطفى: المرجع السابق، ص 41. مجموعة من الباحثين: الأبعاد التربوية للصراع العربي الإسرائيلي،
وقائع المؤتمر العلمي الذي نظمته كلية التربية بجامعة الكويت، ط1، مركز دراسات الوحدة
العربية، بيروت، 1986.ص255.
(8) منير بشور...:
المرجع السابق، ص 41-42.
(9) مجموعة من الباحثين:
الأبعاد التربوية للصراع العربي الإسرائيلي، ص 255-256.
(10) جاك دومال
و ماري لوروا: التحدي الصهيوني" أضواء على إسرائيل"،ط1 ترجمة نزيه الحكيم،
دار العلم للملايين، دار الآداب ، بيروت، 1968. ص 115..
(11) يهوشفاط هركافي
وآخرون: الكمية والنوعية في الاستراتيجية الإسرائيلية، ط1، وكالة المنار، نيقوسيا،
قبرص، 1986.ج/2، ص 249.
(12) مجلة العالِم:
العدد (35) نيسان، 2002. ص 14.
(13) سناء عبد اللطيف:
هكذا يربي اليهود أطفالهم، ط1، دار القلم، دمشق، 1997. ص19.
(14) مجموعة من
الباحثين: الأبعاد التربوية للصراع العربي الإسرائيلي، ص258-259.
(15) مجلة القدس:
العدد (16)، أبريل، 2000. ص32.
(16) المرجع نفسه،
ص 267-269.
(17) مجلة المجتمع:
العدد ( 1488)، 9/2/ 2002. ص 24.
(18) مجلة اليقظة
العربية: السنة السادسة، العدد الثامن، آب، 1990. ص 103.
(19) مجلة اليقظة
العربية: السنة السادسة، العدد الثامن، آب، 1990. ص 102-103.
(20) مجلة الجندي
المسلم: السنة الحادية والثلاثون، العدد (105)، نوفمبر، 2001. ص87.
(21) أنطوان شلحت:
أسطورة التكوين في صياغة إدراك الأطفال الإسرائيليين بواسطة الثقافة العنصرية،ط1، رياض
الريس، لندن، 1991. ص46.
(22) المرجع نفسه،
ص46-47.
(23) يوري إيفانوف:
إحذروا الصهيونية، منشورات وكالة أنباء نوفوستي، 1969. ص 39.
(24) يوري إيفانوف:
المرجع السابق، ص 40-41.
(25) سهام منصور:
المرأة اليهودية، الماضي، الحاضر، المستقبل، ط2، مكتبة مدبولي، مصر، 1987. ص82-83.
