الالتزام في الأدب الصهيوني

الالتزام في الأدب الصهيوني
الدكتور جبر الهلّول
إن الفكر الديني اليهودي يتغلغل في جميع نواحي الحياة اليهودية المادية والمعنوية، لما يتسم به هذا الفكر من خاصية استطاعت أن تحافظ على اليهود طيلة هذه القرون الطويلة عبر التاريخ، وتمدهم بعنصر البقاء من خلال اختزان الماضي بكل ما فيه من آمال وآلام، وأن ترسم لهم ملامح المستقبل الذي يمكن أن يعوضهم عما فقدوه على أيدي الآخر الذي يعني بكل أحواله وصفاته غير اليهودي.
فالفكر الديني اليهودي يشكل المخزون الثقافي التاريخي الذي يحدد معالم الشخصية اليهودية في كل العصور، ويضعها ضمن أسوار "الجيتو" الانعزالي، لكي تحافظ على صفاتها وملامحها وطباعها التي تشكل هويتها اليهودية التي تحمل طابع صفة الهوية القومية التي حرص جميع قادتهم الدينيين والسياسيين التأكيد عليها، والتمسك بها، باعتبارها هوية "مقدسة" تميزهم، وترفع من شأنهم في مواجهة الآخر.
وقد كان من الطبيعي أن يفرز الفكر اليهودي أدباء ومفكرين يتسمون بصفات هذا الفكر، ويحملونه في عقولهم ووجدانهم، ويفتخرون به، باعتباره يحتكر الصفة والحضارة الإنسانية في الشخصية اليهودية التي باركها الإله "يهوه" من دون الخلق جميعاً، وجعل منها الغاية والهدف في الوجود في الحياة!.
فاليهودي يشكل جوهر اليهودية التي تقوم على ثلاثة أسس رئيسة: الإله الخاص "يهوه"، والشعب الخاص "اليهود"، والأرض الخاصة "أرض الميعاد" بحدودها التوراتية. ولا يمكن أن تكتمل اليهودية ما لم تجتمع هذه الأسس على الوجه الكامل وفق الفكر الديني اليهودي، حيث يمكن أن يتحقق الخلاص الذي يحلم به اليهود. وهذا يعني يجب أن يجتمع اليهود من جميع أصقاع الأرض في أرض الميعاد التي ناولوا ملكيتها بناء على وعد مزعوم من إلههم "يهوه"، لكي يتسنى لهم قيام دولة يهودية تحكم العالم بالسيادة والخضوع، وتكون عاصمتها أورشليم. ولكن هذا الخلاص الذي ينتظره اليهود لم يكن يعدو كونه أمراً غيبياً سيتم بتدبير إلهي في آخر الزمن، إلى أن جاءت الصهيونية التي دعت لتحويل العقيدة الإيمانية بالخلاص إلى ممارسة وسلوك من خلال تحويل الفكر الديني إلى مخطط سياسي أيديولوجي يجب على اليهود تنفيذه على أرض الواقع لكي يتحقق الخلاص المنشود.
هذا الخلاص هو الذي بات جوهر المشروع الصهيوني الاستعماري الذي بدأت خطواته الأولى من أرض فلسطين كقاعدة صغيرة لمشروع كبير جغرافياً واقتصادياً في المنطقة بكاملها. ونتيجة لنجاح الصهيونية في اجتياز خطوات مهمة على أرض الواقع لاسيما المجيء بعدد كبير من يهود العالم إلى فلسطين واستيطانهم فيها، وإحياء اللغة العبرية، ومن ثم إعلان قيام دولة يهودية، ساهم وبشكل واضح في بروز أدب صهيوني ملتزم، يتمثل الفكر الديني اليهودي، والأيديولوجية الصهيونية التي اتكأت على الفكر الديني في وضع أسسها التي صاغها كبار زعماء ومفكري اليهود، أمثال هرتزل وآحاد هاعام وجابوتنسكي، ومن ثم حاييم وايزمن وبن غوريون وغيرهم..تلك الأسس مثلت طريق الخلاص لتحقيق الحلم اليهودي القديم الحديث الذي كان على الدوام المحرك الخصب لخيالات الأدباء اليهود وإلهاماتهم التي تمزج بين الواقع والخيال، وبين الأسطورة والحقيقة بأسلوب لا يمكن فهمه إلا من قبل اليهود أنفسهم.
 ولعل أبرز ملامح تأثر الأدب الصهيوني بالفكر الديني، والفكر السياسي الصهيوني يمكن ملاحظته من خلال نظرتهم العنصرية للآخر، ومن خلال نظرتهم إلى مفهومي الحرب والسلام النابعين من عقيدتهم العنصرية.
- العنصرية في الأدب الصهيوني:
تتضح معالم العنصرية اليهودية من خلال نظرتها إلى اليهود على أنهم "شعب الله المختار" وأن الآخر "غوييم"، وفي ذلك تقسيم البشر إلى قسمين على طرفي نقيض في المكانة والتكوين والوظيفة الموكلة إليه في الحياة. وقد ظهرت العنصرية اليهودي في الأدب الصهيوني بشكل جلي على أنها مدعاة للفخر والاعتزاز، كما أشارت إلى ذلك الشاعرة الصهيونية "آنا نجرينو" في إحدى قصائدها:
أوصتني أمي منذ الطفولة
ليكن عملك بتصميم وتعصب
حتى لو امتدت يدي يوماً بغضب
لا تغفري لي
ابنتي ولا تسمحي.
قالت لي أمي: بأني
ابنة شعب غني بالأسفار..
والأغيار جهلة
حدثتني أن أكون في المقدمة
لأني يهودية
قالت أمي: إنني ابنة شعب
 لا يقبل الضياع
واجبي مواصلة الطريق
طريق أبي
 لمواجهة الأغيار الأعداء
ولو كانوا كل العالم.(1)
فالعنصرية اليهودية على فظاظتها كانت بالنسبة لليهود سبباً في حفظ وجودهم المادي والمعنوي من الضياع والتلاشي والاندماج في مجتمعات الأغيار، التي عاشوا بين ظهرانيها وهم يضمرون لها العداوة والبغضاء بحسب قول الشاعرة الصهيونية التي لابد أنها استوحت ذلك من الفكر الصهيوني ذاته، حيث يقول أبو الصهيونية هرتزل: «إن أصل اليهود يختلف عن سائر الأصول البشرية، وإنهم يشكلون شعباً واحداً، وجنساً متميزاً ..وإن عليهم أن يتمسكوا بهذه الفوارق التي تميزهم عن الآخرين، من أجل الحفاظ على عنصرهم»(2). وما تفتقت عنه عبقرية هرتزل مستوحى من التوراة مباشرة التي جاء فيها: «وإذا أدخلكم الرب إلهكم الأرض التي أنتم مزمعون أن تمتلكوها، وطرد أمماً كثيرة من أمامكم...وأسلمهم إلى أيديكم وضربتموهم، فاجعلوهم محرمين عليكم. لا تقطعوا معهم عهداً، ولا تحننوا عليهم...فيشتد غضب الرب عليكم ويبيدكم سريعاً ... فأنتم شعب مقدس للرب إلهكم الذي اختاركم من بين الشعوب التي على وجه الأرض..»(3). فالعنصرية التي اتسم بها الفكر الديني اليهودي استغلتها الصهيونية لإنجاح مشروعها الاستعماري في فلسطين، فنفثت بها حيثما وجد اليهود. وكان للأدباء الصهاينة الذين تشربوا الفكر الصهيوني حتى الثمالة دورهم  في شحن النفوس  اليهودية بالعنصرية، فمثلاً نجد الشاعر الصهيوني "يهودا عمي حاي" في قصيدته (اليهود) يتغنى بهذه العنصرية ويقول:
اليهود هم
بقايا غابة بكر
تقف مصطفة بها الأشجار.
ثم يتابع :
اليهود مصقولون بالصبر
 مشحونون بالعناء
كأجزاء صخر على ساحل اليم
فضل اليهود بموتهم فقط
كفضل أجزاء الصخور المصقولة
على بقية الحجارة
عندما تقذفها يد قوية.(4)
لكن تبزر العنصرية في الأدب الصهيوني بشكل أكبر عند الحديث عن الآخر، لاسيما العربي الذي يمثل كل الأغيار، والذي يعتقد جميع الصهاينة أنه لا ينتمي إلى البشرية إلا بالشكل، ولكن أي شكل؟!. فيقول الصهيوني "آحاد هاعام": «إن المستوطنين الصهاينة يعتقدون أن العرب جميعاً متوحشون يعيشون مثل الحيوانات ولا يفهمون ما يدور من حولهم»(5). وما يقوله الصهاينة هو نتاج الفكر الديني الذي قسم العالم إلى قسمين مختلفين متناقضين على حد تعبير الصهيوني "موريس صاموئيل" الذي يقول:«اليهود.. وغير اليهود عالمان مختلفان متناقضان. فبيننا نحن اليهود، وبينهم خليج لا جسر عليه..
في العالم اليوم قوتان حيويتان : اليهود والأغيار.. ولا أظن أن التناقض الأساسي بينهما يمكن إزالته بالتفاهم.. فالفارق بيننا وبينهم شاسع سحيق.. قد تقول: حسناً دعونا نعيش جنباً على جنب، وليتحمل أحدنا الآخر، فلا نتهجم على أخلاقياتكم ولا تتهجمون على أخلاقياتنا. لكنه للأسف فالتناقض بين فريقين قائم على الكراهية والحقد المميتين» (6). وهذا الحقد على الآخر غرسه "التلمود" في عقول اليهود، حيث ورد فيه نصوص كثيرة في هذا الجانب منها:
«نحن شعب الله في الأرض، سخر لنا الحيوان الإنساني، وهو كل الأمم والأجناس سخرهم لنا لأنه يعلم أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع أعجم كالدواب والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل الشرق والغرب..إن اليهود من عنصر الله كالولد من عنصر أبيه. ومن يصفع اليهودي كمن صفع الله. يباح لإسرائيل اغتصاب مال أي كان. وإن أملاك غير اليهود كالمال المتروك يحق لليهودي أن يمتلكه.
أنتم يا أمة إسرائيل تدعون بشراً، أما ما عداكم من الأمم فوحوش.
يا معشر اليهود: إنكم أنتم البشر، أما الشعوب الأخرى فليسوا من البشر بشيء إذ إن نفوسهم آتية من روح نجسة، أما نفوس اليهود فمصدرها روح الله المقدسة»(7). هذه المعاني تقمصها الأدباء الصهاينة في إنتاجهم الأدبي. فمثلاً "إسرائيل زراحي" في قصته "قرية السلوان" يصف العرب بقوله: «عرب القرى يدخلون بين النيران، ليجردوا القتلى، ويسرقوا الجثث، ويقطعون الإصبع الذي به خاتم، أو يأخذون السن الذهبي من الفم»(8)!!. فالقارئ «للأدب الصهيوني يلاحظ أن أدباءه يلصقون بالعربي صفات ونعوتاً لا تليق بحق أي إنسان، فهو كاذب ، منافق، مراء، يغتصب النساء والبنات، معتد عديم المبادئ وغريزته الجنسية هي التي توجهه، هذا إلى جانب أنه يحب القتل (قتل اليهود)، ويحنث بوعده ويحب المال، ويمكن شراؤه برشوة بسيطة، أو بمبلغ من المال..»(9). ولعل إصرار المفكرين الصهاينة وأدبائهم على تشويه صورة العربي، لاسيما الفلسطيني، ونزع الصفة الآدمية منه استناداً إلى الفكر الديني، بهدف إعطاء المبرر الدائم لاستئصاله من أرضه، قتلاً وطرداً ومعاملته المعاملة القاسية التي تليق بالصفة التي أسبغوها عليه. فقد صور الأديب "س.يزهار" في قصته "خربة خزعة" على لسان "شلومو ويهودا" الطفل الفلسطيني حين يكبر سيكون مثل الحية السامة، فيقول: «رأينا كذلك ذلك الشيء الذي كان يدور، والذي لا يمكن أن يكون حين يكبر إلا حية سامة، ذلك الذي هو الآن»(10).
وليس ذلك التصوير للطفل الفلسطيني صغيراً وكبيراً إلا أحد المبررات التي توضع أمام الجنود الصهاينة لقتل الأطفال الفلسطينيين قبل أن يكبروا، ولقتل النساء اللواتي لن ينجبن إلا مثل تلك الأطفال.
ويصف الشاعر الصهيوني "ديفيد شمعوني" الفلسطيني بقوله:
كل فلستي ذليل وعظيم
يختلط القرابين
مع بخور ومر الخيام.(11)
أما الشاعر الصهيوني "ديدي منوسي" يصف العربي بأقذع الأوصاف التي لا تمت إلى البشرية بحال من الأحوال، فيقول في قصيدة طويلة نذكر منها:
سيد...
يسكن قصراً
ثلاثين غرفة (أي كثير)
أعزب بلا زوجة
ولا أولاد
وحدة مركبة
لذلك لجأ على الراب
سأل : ما العمل؟
قد نفذ الصبر!...
أجاب الراب:
 القصر الفارغ
يناسب الماعز
أدخلْ الماعز!
أدخلَ الماعز
ليكتشف الصداقة،
لكن مع الماعز
ازدادت الوحدة
وبسبب البعر طفح القصر
...
سأل ما العمل؟
أجاب الراب:
أخرج الماعز
تشعر بتحسن!..
شعب إسرائيل
وحدة ساطعة.
...
سمع النصائح
أدخلَ الماعز (استوطن بجوار شعب غريب)
لكن الوحدة
ازدادت
إضافة للبعر
والرائحة المخيفة:
لكن الذاهل
يميل إلى المبالغة
عوض الإخراج
يخل الماعز ثانية!
وهكذا كان يخلق
مشاكل إضافية؛
أن يتراجع
(لا خيار)
تلتصق به إلى الأبد
الرائحة النتة!.(12)
-        الحرب والسلام في الأدب الصهيوني:
انسجاماً مع النظرة العنصرية التي تمثلت بها الصهيونية تجاه الأغيار لاسيما العربي باعتباره وفق الأيديولوجية الصهيونية والتصور المستوحى من الفكر الديني هو محتل وغاصب لأرض اليهود، وهذا الاحتلال ليس ناجماً عن اقتحام ذلك العربي لتلك الأرض لأنه ولد عليها أصلاً، وإنما أمسى محتلاً منذ صدر الأمر "اليهوي" بانتزاع الأرض منه وتمليكها "لشعبه المختار" الذي اختاره من دون العالمين لا لصفات تميزه باستثناء الصفات التي أنتجتها العقلية اليهودية لكي تميز بها نفسها عن الآخر غير اليهودي.
لذا وبسبب نظرة اليهودي للآخر على أنه محتل وغاصب لحقوقه التي منحه إياه إلهه "يهوه" باتت الحرب ركناً أساسياً في تفكيره ومنهجيته في الحياة، وبخاصة أن التوراة وما لحق بها من أسفار تغذي بشكل مستمر تلك النزعة العدائية وتحث إلى ممارسة كل أنواع العنف والإرهاب، وتمجد القوة التي طالما حلم بها اليهود من أجل تحقيق أهدافهم التي رسمها لهم فكرهم الديني. ولاشك أن الأدباء الصهاينة هم ولادة هذا الفكر الديني وثمرة من ثمراته، لاسيما في نظرتهم إلى الحرب والسلم مع الآخر لاسيما العربي المتمثل بالفلسطيني الذي رسم له الأدب الصهيوني صورة وحشية لا تدع في قلب الجندي اليهودي أدنى رحمة في التعامل معه، فقد صور «الكاتب الصهيوني "اليعيزر شموئيلي" في قصة "في الماء والنار" صبياً يهودياً لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، يذهب ليجلب الماء للمقاتلين اليهود المحاصرين في القدس فيقوم العرب بإلقاء القبض عليه ويضعون المتفجرات في مزوداته ويرسلونه إلى اليهود ويداه موثوقتان وراء ظهره والمزادة ملتصقة بجسده. فينفجر الصبي إلى شظايا أمام أعين المقاتلين اليهود، ولدى سماع المقاتلين العرب صوت الانفجار يصدرون ضحكات هسترية»[1].
كذلك العبقرية والتفوق التي طالما احتكراهما اليهود في عقليتهم لم تغب عن ساحة الأدب اليهودي الذي صور اليهود على أنهم الأقدر على استخدام السلاح، فقد قام الصهيوني "مناحيم تلمي" بتصوير فتاتين يهوديتين قد قامتا بقصف العرب بدقة لم يسبق لهم أن يعرفوها، قائلاً: «لو عرف عدونا من الذي يقصفه بهذه القذائف وبهذا الاجتهاد. لو عرف أن الذي يقصفه فتاتان عبريتان لكان أغمي عليه من فرط الخجل»[2]. فإذا فتيات اليهود بهذه الصفات فكيف حال فتيانهم الذين تحققت على أيديهم انتصارات استولوا فيها على الأرض التي طالما حلموا اليهود أن تستقر أقدامهم عليها؟!!. ففي قصيدة للشاعر الصهيوني "اسحق شاليف" تحت عنوان "طريق فتى" يصف فيها أحد الجنود الصهاينة مستعرضاً مسيرته في الحرب وما حقق فيها من انتصارات ضد العرب إلى أن مات، قائلاً:
من هضبة الجولان إلى الوادي
من وادي الأردن إلى القطاع
ومن هناك إلى شرقي القناة.
إلى أن عادت الكتيبة ثانية إلى
الهضبة..
كان هذا طريقك ..طريق فتى
في أرض النيران الكبيرة
كنت ابناً لأرض النيران
التي اسمها.. الطريق إلى الرب..(14)
إن العقيدة اليهودية والأيديولوجية الصهيونية تعشش في عقلية كل صهيوني بحيث نجد أن الأهداف العنصرية تحتم عليه القيام بما ينسجم مع تلك الأهداف من عدوان وعنف وإرهاب يخدم بشكل مباشر وأساسي الكيان الصهيوني ويحاول أن يرسخ وجوده عن طريق المجازر والإبادة الجماعية التي توجد في نفس كل صهيوني لا يرى أي موجب في احترام العربي أو الأخذ بعين الاعتبار لحقوقه. وإن من الضروري أن يستعد اليهود لاستئصال العرب من ديارهم لكي يتحقق النقاء العنصري لهم على أرض فلسطين، وذلك كما جاء في رواية "عاموس عوز" "في مكان ما":
«اطردوا كل الخونة
من البلاد اليهودية
لا نريد هنا
إلا كل صهيوني حقيقي
يصرخ أمام الملأ
يهوذا والسامرة لنا
وأنتم سكان يهوذا والسامرة
اجلسوا بصمت بهدوء
وقولوا شكراً
لأنكم لم ترحلوا بعد
إلى ما وراء البحار»(16).
فهاجس التشتت والابتعاد عن الأرض التي طالما حلموا بها يجعلهم يعيشون هاجس الحرب المستمرة التي باتت تشكل جزءاً أصيلاً من حياتهم اليومية كما يقول الشاعر الصهيوني "يعقوب باسار" في قصيدته "الحرب المقبلة":
الحرب المقبلة..ننشئها..نربيها
 ما بين حجرات النوم.. وحجرات الأولاد
النعاس آخذ في الاصطباغ بالسواد
ونحن في فزع من الاقتراب منه
***
ذراع الكهرباء تتحرك
على محورها الملفوف بالصمت
تجاه الحرب التي تحظر
على أحاديث المطابخ
في عتمة الحجرات..
ونحون مقيمون على إغفاءة الظهيرة
***
وفي قاع العيون
جملان في لون الليل البهيم
يرشف كلاهما من فم الآخر
مياه الرعب الخضراء
ذلك لأننا نستنبت
في تأن وثقة
زهرات الحديد للحرب المقبلة
ما بين حجرات النوم..وحجرات الأولاد.(17)
وإذا كان الأدب الصهيوني هو تعبير عن الأيديولوجية الصهيونية في تصوراتها للحرب فإنه ولاشك يعبر عن نظرتها للسلام ويحمل نفس المفاهيم باستثناء القلة القلية من الصهاينة التي لها وجهة نظرة أخرى تختلف قليلاً عن نظرة عموم الصهيونيين ولكن لا قيمة لها على أرض الواقع لأن الصهاينة بأغلبيتهم يردون الحرب ولا يردون السلام، وذلك لأن استمرارية وجودهم وخطوات إكمال تنفيذ المشروع الصهيوني مرتبط بها، وليس في السلام الذي ينادي به بعض الزعماء العرب، الذي هو بخلاف السلام الذي يتكلم عنه القادة اليهود الذي هو صورة أخرى للحرب اليهودية. ولإيضاح ذلك في الأدب الصهيوني نستعرض قصيدة الشاعر الصهيوني "حاييم حافير" "حصار السلام" التي يقول فيها:
فلتكن حرباً، بغيرها لا نفهم
لكن ..السلام؟!
بالسلام لسنا واثقين
التصريح أو البيان وحتى الإعلان
[كل هذاٍ] لا يثبت لنا أن هذا ليس
[إلا] مناورة مضللة
وانظر أية خديعة يستطيع سلام
كهذا أن يغطي!!
ونحن، عموماً، لا نحتاجه
وليس من المحبب حتى المحاولة
وصدقني: أي سلام مع العرب
ليس إلا مراء
وتقول لي ثانية، إننا وقعنا
اتفاق سلام مع مصر!؟
أليست أرض النيل بعيدة؟!
أما هنا فهم عندنا في الدار
نراهم ونرى نظرات حقدهم
من وراء الجدار،
لو استطاعوا.. ما تركوا بنا
جزءاً سالماً
يجب أن نبقى بالمرصاد
حرام علينا إغماض العيون
الوضع خطير
انظر كيف، بالمكائد، يصنعون
لنا سلاماً!
يجب استصراخ يهودية أمريكا
يجب أن نوضح للكونغرس
أن ليس للعرب من مكان
أفضل مما هم فيه عندنا
تحت الاحتلال
وسترى كم نحسن لهم صنعاً
عندما لا نعمل على طردهم
أية ضربة؟
نحن الشعب المختار،
شعب الذهب، شعب الألماس
وفجأة، يدخلون به
هذا الـ ...سلام!
عندئذ يا سادة
لا سخرية من العدو
الوضع وضع طوارئ
لملء الأكياس رملاً
وتوزع أقنعة الغاز
إننا ثانية في حصار
كلهم يتكلمون عن السلام..
أنقذونا.. أنقذونا!![3]   
هذا أنموذج عن الأدب الصهيوني لكنه أدب ينسجم مع ما جاءت به الصهيونية من أفكار مستوحاة من الفكر الديني لكي تبرر مشروعها الاستعماري في فلسطين. ولذا يمكن أن نقول: إن الصهيونية قد استطاعت بالإضافة لنجاحها الذي حققته على أرض فلسطين، أن تبلور أدباً ملتزماً بأيديولوجيتها، ويساهم بشكل فعال جنباً إلى جنب مع الآلة العسكرية في تحقيق خططها وأهدافها، وبخاصة أن صفة الحقد والكراهية التي تحملها العنصرية اليهودية أصبحت أغنية الانتقام والتعطش لدماء الأغيار، لاسيما العربي الذي يشكل العدو الأول لليهودي بسبب وجوده على الأرض التي وقع اختيار الرب لإعطائها لهم، والتي بررت الصهيونية بذلك سعيها لاستعمارها عن طريق القوة والقتل والتدمير، وجعل ذلك رسالة يجب أن يحملها كل صهيوني ويتغنى فيها، كما فعل الشاعر الصهيوني "بياليك" في قصيدته المشهورة:
يا سيفي أين سيفي، سيفي المنتقم؟
أعطني سيفي لأنتصر على أعدائي!
أين أعدائي؟ فسوف أصرعهم
وأحطم وأقطعهم إرباً
وسوف أوقف من الناس الذكرى
سوف اقطع كالحاصد واجتز جذورهم.
سوف أشهر يدي اليمنى القوية، وأوبخ أعدائي
وأجعل سيفي يشرب فخوراً من دمهم
وستستحم خطواتي في دماء الصرعى
وتدوس قدماي على شعر رؤوسهم
سأقطع من يمين وأحصد من شمال
فلقد اشتعل غضبي، وصار جحيماً
لقد ضايقني كثيرون، ولكن لن يبقى أحد بعد المذبحة
نعم..إني سوف أفنيهم حقاً
يا سيفي، أين سيفي، سيفي المنذر؟
أعطني سيفي، فلن أغمده مرة أخرى
حتى أذبح كل أعدائي
لست أطيق الاحتمال، لقد أشرقت روحي!
وغضبي مشتعل، وقلبي ـ تل يتحرك،
ورعي في عروقي ـ تيار من شرار جارف.(13)
قد يعجب المرء من هذا الأدب الذي اتسم بالحقد على الآخر، والتعطش لسفك دمه، ولكنه سوف يزداد عجباً ودهشة عندما يعلم أن هذا الأدب ليس إلا محاكاة للفكر الديني!. فقد ورد على لسان إلههم في سفر حزقيال تحت عنوان: "سيف الرب" ما يماثل القصيدة السابقة تماماً: «وقال لي الرب: يا ابن البشر، التفت نحو أورشليم وتكلم على معابدها وتنبأ على أرض إسرائيل، وقل لأرض إسرائيل: هكذا قال الرب:أنا خصمك، فأستلُّ سيفي من غمده وأقطع منك الأبرار والأشرار جميعاً. أستله على كل البشر من الجنوب إلى الشمال، فيعرف كل البشر أني أنا الرب سللتُ سيفي من غمده ولا يعود إليه»(14).
ثم يبرز مهمة سيفه فيقول:
«سيف، سيف مسنون مصقول.
مسنون للذبح.
مصقول ليلمع كالبرق.
أم نحن نلهو؟.»(15).
ثم يتابع:
«سيفي سيفٌ براق.
براق مصقول للذبح.
اضرب يا سيفُ يميناً ويساراً!
اضرب كيفما اتجهت!
وأنا سأضرب كفّاً على كفّ  وأشفي
غيظي.
أنا الرب تكلمت»(16).
فمن يقرأ الفكر الديني ومن ثم يقرأ الأدب الصهيوني يلاحظ كم هو متأثر وملتزم بهذا الفكر، وكيف نجحت الصهيونية أن توظف هذا الفكر في خدمة مشروعها الاستعماري بدءاً من فلسطين.




(1)  فؤاد سليم أبو زريق: الأدب الصهيوني وتضليل الرأي العام، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000.ص99.
(2)  أحمد الزغيبي: العنصرية الصهيونية، العبيكان، الرياض، 1998. مج4/، 208-209.
(3)  سفر الثنية. 7: 1-6.
(4)  فؤاد سليم أبو زريق: المرجع السابق، ص101.
(5)  محمد محمود صمودي: استراتيجية الأدب الصهيوني لإرهاب العرب، سلسلة نحن وهم، مؤسسة الاتحاد للصحافة والنشر أبو ظبي. ص87.
(6) زهدي الفاتح: اليهود، ط2، لا.مكان، 1987. ص119-120.
(7)  هانئ الهندي ومحسن إبراهيم: إسرائيل.. فكرة..حركة..دولة، ط1، دار الفجر، بيروت، 1958. ص21.
(8) محمد محمود صمودي: المرجع السابق، ص90.
(9)  فؤاد سليم أبو زريق: المرجع السابق، ص81.
(10) محمد محمود صميدة : المرجع السابق، ص108.
(11) فؤاد سليم أبو زريق: المرجع السابق، ص91-92.
(12)  المرجع نفسه، ص94-95.
[1]  - المرجع نفسه ، ص 149.
[2] - المرجع نفسه، ص149.
(14)  الرمجع نفسه، 153-154.
(16)   محمد صالح العياري: الشعر العبري والصهيوني المعاصر، دار المعارف، سوسة ، تونس، لا تاريخ. ص206.
(17)  فؤاد سليم أبو مرزوق: المرجع السابق، ص156-157.
[3]  المرجع نفسه، ص 154-156.
(13)  محمود ثابت الشاذلي: السلام عليكم، مكتبة وهبة، القاهرة، 1992. ص12-13. نقلاً عن كتاب رشاد عبد الله الشامي " الشخصية اليهودية والإسرائيلية والروح العدوانية. 
(14)  سفر حزقيال. 21: 1-5.
(15)  حزقيال. 21: 8-10.
(16)   حزقيال. 21: 15- 17.
المعرفة المواجهة

مواضيع ذات صلة

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات

:)
:(
=(
^_^
:D
=D
=)D
|o|
@@,
;)
:-bd
:-d
:p
:ng