بابل
في الفكر الديني اليهودي وحرب النبوءات
الدكتور
جبر الهلّول
ليس غريباً أن يكون هناك ارتباط بين جرى
في العراق في الماضي وما يجري الآن فيها، إذا نظرنا إلى مجريات الأحداث من خلال
الفكر الديني اليهودي الذي هو في جوهره تاريخ الماضي البعيد الذي يختزن الذاكرة
اليهودية في آمالها وآلامها وأحقادها التي انطلقت من خلال عجزها في الوصول إلى
أهدافها التي تتمحور حول احتكار الإنسانية، وما يتبعها من ضرورات الحياة، ومحاولة
سلب ذلك من الآخر بكافة الوسائل والإمكانيات المتاحة.
وإذا كان هذا الآخر هو السبب في عدم
تحقيق أحلام العقلية اليهودية في الماضي، بل يرجع إليه الفضل في مقاومتها ومحاولة
القضاء عليها قضاء نهائياً، وبخاصة أن ما قام به الآخر قد شكل نقطة النهاية للماضي
اليهودي التي أثرت بشكل واضح في صياغة المستقبل البعيد ورسم معالمه. وهذا ما جعل
العقلية اليهودية من خلال النص الديني تعيش في ذكريات الماضي وأحلام المستقبل.
وربما هذا التصور كان وراء تجاوز الزمن الذي يفصل بين الماضي والحاضر في رسم الخطط
في الوصول إلى المستقبل من قبل الحركة الصهيونية التي استندت إلى الماضي القديم
المنبثق من الفكر الديني اليهودي في طرح مزاعمها في مشروعها الاستعماري الذي ينطلق
من قاعدته الجغرافية فلسطين ليمتد إلى الحدود الجغرافية التي رسمها التصور الديني
في الماضي لتعود إلى الوراء من نقطة النهاية التي توقف عندها تاريخ اليهود بفعل
الآخر الذي انصب عليه حقد اليهودي الأبدي الذي لم يدخر جهداً في إشعال الفتن
والمؤامرات للانتقام منه في المكان الذي قضى على أحلامهم في الماضي لتحقق نبوءة
الرب "يهوه" في الانتقام لشعبه "الخاص" .
ولكن هل كانت هناك نهاية مؤلمة واحدة في
التاريخ اليهودي لكي ينصب غضبهم عليها أم كانت هناك نهايات مؤلمة في تاريخهم؟! فالنهايات
التي وقفت أمام اليهود في تحقيق أحلامهم كانت متعددة، ولكن كان من أبرزها وأبلغها
أثراً ورسوخاً في عقليتهم وذاكرتهم الشعب الفلسطيني حيث تدور عليه دائرة الحقد
والانتقام اليهودي، لأن هذا الشعب كان له الدور الأساسي في التصدي لمشروعهم الاستعماري
في فلسطين والمشاركة في صناعة النهاية الأولى لهم، فمقاومة الفلسطينيين ساهمت في
استنزاف القوة اليهودية، وتفتيت الكيان الذي طالما سعوا لتثبيته وتأمين استقراره،
ولكنهم لم ينالوا ذلك باستثناء الفترة التي يفتخرون بها ويعتبرونها حجر الأساس
والسند التاريخي في أحقيتهم في المطالبة في المنطقة بأقصى حدودها أيام مملكة داود
وسليمان التي لم تعمر سوى قرن من الزمن (1030ق.م- 932ق.م) وفق الفكر الديني
اليهودي.
وإذا كانت دائرة الحقد اليهودية
التاريخية تنصب بداية على الشعب الفلسطيني قديماً وحديثاً باعتباره حجر العثرة
أمام أطماعهم الاستعمارية إلا أن محاولة القضاء على أكبر عدد منهم وتهجيرهم من
فلسطين يُسهل على اليهود الانتقال إلى دائرة الحقد والانتقام الأخرى المخزونة في
النص الديني الذي يعمل على الدوام على محاكمة الآخر تاريخياً وإذكاء نار الحقد
تجاهه باستمرار، وإضفاء طابع القداسة على عملية الانتقام من خلال جعلها إرادة
إلهية عساها أن تشفي بعض غليل "يهوه" الذي وعد "شعبه الخاص"
بالانتقام له مما لحق به على يد الآخر.
فحلقة
الانتقام الثانية من حيث الترتيب في الفكر الديني اليهودي تمتد جغرافياً لتنصب على
بابل التي تختزن النهاية الأولى المأساوية في تاريخ اليهود، حيث تم على يد ملكها "نبوخذ
نصر" القضاء الفعلي على الوجود اليهودي في فلسطين، وسبيهم إلى بابل، وهدم
هيكلهم عام (587ق.م). ومنذ ذلك التاريخ انتهى وجودهم السياسي، وتلاشى حلمهم الاستعماري،
وانتهت فكرة الشعب اليهودي الواحد من الواقع لتبقى فقط بين طيات النصوص الدينية التي
حافظت على طابع القومية في اليهودية التي اتسمت بها بعدما تفرق اليهود، وأمسوا
جماعات دينية متفرقة تعيش على هواجس الماضي، وتحلم بالمستقبل الذي يُمَكّنها من
الانتقام منه.
لكن حلم الجماعات اليهودية المتفرقة في
جميع أنحاء الأرض في العودة إلى فلسطين، ومن ثم ممارسة الانتقام من الآخر الذي
ساهم في إحداث النهايات الأولى في تاريخهم لم تكن تتجاوز قبل الحركة الصهيونية
العقيدة الدينية التي تنتظر التدخل الإلهي في صنع ذلك في آخر الزمن. ولهذا كان
قيام الحركة الصهيونية التي لاقت معارضة من بعض الجماعات اليهودية التي تؤمن
بالتدبير الإلهي لحوادث الزمن، بمثابة التدخل في المشيئة الإلهية، والمساهمة
المقدسة في تحقيق النبوءات الدينية التي ينتظرونها، والتي منها تجميع اليهود
المنتشرين في أصقاع الأرض في فلسطين، وقيام كيان سياسي لهم، ومن ثم الانتقام من
الآخر الذي ألحق الأذى بهم، وقد ورد في سفر إشعيا: «في ذلك اليوم يرتفع أصلُ
يسّي (أبو داود) راية للشعوب. تطلبه الأمم ويكون موطنه مجيداً. لافتداء بقية شعبه
في أشور ومصر ...ويرفع الرب راية في الأمم ليجمع حولها المنفيين من بني إسرائيل
والمشتتين من بيت يهوذا في أربعة أطراف الأرض...فيجتاحون معاً سفوح الفلسطّيين
(الفلسطينيين) غرباً، وينهبون بني المشرق جميعاً يلقون أيديهم على أدوم وموآب
ويكون بنو عمون (عمان) في طاعتهم»(1). إذاً فالحركة
الصهيونية جاءت لتمثل بداية المرحلة الأخيرة من حياة اليهود التي يعقبها تحقيق عصر
الخلاص اليهودي الذي لن يأتي من دون مشاركة اليهود الفعلية فيه. ومن تلك المشاركات
عقاب بابل الذي لم يغب عن العقلية الصهيونية وخططها، فقد قال فموشي ديان وزير حرب
الكيان الصهيوني عام 1967 عندما دخل جيشه مدينة القدس: «لقد استولينا على أورشليم
ونحن في طريقنا إلى يثرب وبابل». إشارة منه لما جرى لليهود من نهايات على أيدي
المسلمين، وما جرى لليهود على أيدي جيوش "نبوخذ نصر" ملك بابل. كما وقد
أطلق "مناحيم بيغن" على العملية التي قامت بها إسرائيل لتدمير مفاعل
تموز النووي العراقي عام 1981 اسم "عملية بابل" للتعبير عن الحقد الدفين
في صدره وفي صدور كل اليهود، والذي منبعه الفكر الديني، والحقد التاريخي.
-
الحقد التاريخي على بابل:
لاشك أن اليهود على دراية تامة بكتابهم
الذي يضع التاريخ أمامهم ليستلهموا منه الأفكار والخطط في حركتهم في الوجود نحو
المستقبل، وقد ورد فيه: «يا ابنة بابل الصائرة إلى الخراب، هنيئاً لمن يعاقبك
على ما فعلته بنا. هنيئاً لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة»(2).
وبالعودة على بابل أيام "نبوخذ
نصر" آخر عظماء ملوك إمبراطورية بابل العالمية التي يصورها كتاب اليهود
تصويراً بالغ السوء فلا يترك فيها أي وجه إيجابي، وفي ذلك انعكاس للحالة
الانهزامية التي كانوا يعانون منها تحت وطأة السبي الذي تم على يد "نبوخذ
نصر"(3). ولقد انعكست حالة الانهزام التي أحدثها
السبي البابلي على الفكر الديني اليهودي أثناء تدوينه، وتأريخه لتلك المرحلة الذي
بات بالنسبة لليهود ولقسم كبير من المسيحيين المصدر الوحيد للمعلومات عن تاريخ
بابل، وقد قالت دائرة المعارف البريطانية: «حتى القرن التاسع عشر كانت كل المعلومات التي
عندنا عن بابل وأشور مستقاة من الكتاب المقدس، ومن عدد قليل من كُتّاب اليونان.
ولـم تتضح لنا تواريخ بابل وأشور إلا بعد اكتشاف الآثار والكتابات القديمة لهما،
وفك رموز الخط المسماري الذي كانوا يكتبون به وقتها». ومن هنا ندرك أثر كتاب اليهود في العقلية
المسيحية التي تؤمن "بالكتاب المقدس"، وبخاصة النبوءات التوراتية التي
حفرت في عقولهم وعقول اليهود إشارات لا تمحى، وكونت لديهم مواقف لا تقبل النقاش
حول الانتقام من بابل، وبقية الشعوب المجاورة للكيان الصهيوني.
وبالعودة إلى الانتقام الأول من بابل
على يد كورش الذي قضى على الدولة البابلية، وسمح لليهود المسبيين بالعودة إلى
فلسطين والذي يصفه هيرودوت قائلاً: «إن الفرس حاصروها، ولكنهم وجدوا استحالة كسر
أسوارها، أو اختراق أبوابها. وعرف القائد الفارسي أن نهر الفرات يجري تحت هذه
الأسوار الضخمة باتساع كاف لمرور جيش. وكان رجلان من بابل قد هجرا مدينتهما وانضما
إلى جيش فارس، فطلب كورش الفارسي من جيشه أن يحفر خنادق كبيرة لتحويل مجرى النهر،
وطلب من الخائنين وضع خطط الهجوم من داخل الأسوار. وكان البابليون يضحكون على
أعدائهم "العاجزين" خارج الأسوار، فأقاموا حفلاً لآلهتهم لانتصارهم على
فارس ... وذلك من دون أن ينتبهوا إلى أن كورش الفارسي قد حول مجرى نهر الفرات من
تحت أسوار بابل، وأنه
يسير في مجرى النهر الجاف ليدخل مدينتهم. ولقد سقطت بابل بغير حرب بفضل الخائنَيْن
وسُكْر أهل بابل!».
تلك الصورة التي رسمها هيرودوت عن كيفية
إسقاط بابل عام (539ق.م) عن طريق الخيانة بيد ملك الفرس كورش مستقاة من النص
الديني اليهودي، وأريد لها أن تكون متطابقة مع النبوءة الدينية فيه!.
وهنا نلاحظ أن هوس تحقيق النبوءة في
العقلية اليهودية هو الذي يتحكم في صنع الأحداث التاريخية وإسقاط النبوءة عليها،
وقد تأثر بهذا الهوس المسيحية البروتستانتية التي انطلقت في نظرتها للحياة والكون
والتاريخ من خلال الفكر الديني اليهودي أولاً، لذا ليس غريباً أن يتحرك اليهود ومن
ورائهم المسيحيون المتأثرون بفكرهم الديني وراء تحقيق النبوءات الدينية في كل زمان
عند توفر الظروف المواتية لذلك. وإذا أسقطت بابل على يد كورش مرة وفق النبوءة
اليهودية فإن دائرة الحقد عليها لم تنته، لأن ذلك الإسقاط لم يعقبه عصر الخلاص
اليهودي الذي يشترط فيه أن تسبقه حوادث جسام منها أن يجتمع اليهود من جميع أصقاع
الأرض في فلسطين، والانتقام من الشعوب التي تسببت في إبعادهم عنها في التاريخ، ومن
ثم العمل على تهيئة الظروف لتفجير حرب كونية تكون نتيجتها لصالح اليهود حيث يبدأ
عصر الخلاص الألفي الذي ينتظرونه في وفق عقيدتهم الدينية.
- بابل وحرب النبوءات الدينية:
إن النبوءات على بابل جاءت في معظمها
على لسان "إشعيا" ومن ثم "إرميا". أما "إشعيا" الذي
تنبأ لليهود بعد سبيهم إلى بابل بعصر الخلاص الذي يعني بصورة مختصرة بدء حياة
جديدة بكل مضامينها وصورها لهم، وهي أشبه ما تكون بالنعيم الذي يحلم اليهود أن
يكون خاصاً بهم وحدهم في نهاية الزمن. مع العلم أن "إشعيا" الذي وضع أسس
عقيدة الخلاص وحمل تعاليمها من إلهه في أورشليم، كان اسمه بحد ذاته يعني
"الرب يخلص"!.
إذاً ففي سفر "إشعيا" الذي
ولدت فيه عقيدة الخلاص جاءت نبوءة عقاب بابل، وذلك لأن "إشعيا" الذي وضع
تلك العقيدة كان يحمل ذكريات الحلم الاستعماري اليهودي للمنطقة الذي حطمه
"نبوخذ نصر"، وكان تبشيره بالانتقام منه ومن مملكته بابل تعبيراً عن
الحقد الذي يغلي في صدور اليهود، ومحاولة منه لإعادة الثقة في نفوسهم، وربطهم
بالمشروع الذي خلقوا لأجله ـ وهو احتلال أرض الميعاد ـ من خلال احتكار نهاية الزمن
والانتقام من كل أعدائهم. وهذا بشرط أن يلتزموا أوامر الرب إلههم الذي إذا ما
تخلوا عنه تخلى عنهم. ولإيضاح نبوءة "إشعيا" حول عقاب بابل نستعرض بعض
النصوص:
-
«رؤيا على بابل رآها إشعيا بن آموص:
-
انصبوا راية على جبل أقرع
ارفعوا الصوت. أومئوا إلى العدو
ليخلوا أبواب مدينة العتاة. (بابل)
أمرت جنودي الذين اخترتهم،
ودعوت جبابرتي ليوم غضبي
وأبطالي المتشامخين عالياً
اسمعوا الضوضاء في الجبال
كصوت جمهور كبير.
اسمعوا ضجيج الحشود،
حشود ممالك الأمم،
الرب القدير يستعرض جند القتال»(4).
لعل القارئ لهذا النص يدرك أن عقاب بابل
سيقوده الجبابرة العتاة والقادة الأقوياء الذين يتغطرسون بقوتهم، ويشترط أن يترافق
مع ذلك حرب إعلامية نفسية كبيرة، من خلال المبالغة في إظهار ضخامة الحشود ومدى
استعدادها للحرب، وبخاصة أن تلك الحشود ليست حشود مملكة واحدة، وإنما حشود ممالك
ودول عدة تشكل تحالفاً واحداً ضد بابل، لكن من دون أن يعلن صراحة عن مشاركة اليهود
فيها!!(5).
-
ولكن ماذا سيستفيد اليهود من تلك الحرب؟ يجيب إشعيا: «الرب
سيرحم بيت إسرائيل، ويعود فيختارهم شعباً له. يريحهم في أرضهم فيأتيهم الغريب
وينضم إليهم. والشعوب الذين أخذوهم وجاؤوا بهم إلى أرضهم سيمتلكهم بيت إسرائيل في
أرض الرب عبيداً وإماءً. ويسبون الذين سبوهم ويستولون على الذين سخروهم»(6).
-
لم يغفل "إشعيا" الدعاية ضد حاكم بابل وبخاصة بعد
زوال ملكه قائلاً:
« تهجون ملك بابل بهذا النشيد:
كيف زال الطاغية وزال طغيانه!
الرب كسر عصا الأشرار المستبدين
وهم الذين ضربوا الشعوب بغيظ
ضربة بعد ضربة بغير انقطاع،
وأرهبوا الأمم بغضب،
واضطهدوهم من دون رحمة.
فاستراحت الأرض كلها واطمأنت،
وانطلقت أصواتها بالهتاف،
حتى السرو وأرز لبنان
فالدعاية اليهودية يجب أن تصور ملك بابل
بأنه طاغية ومستبد وبالقضاء عليه قد زال طغيانه واستبداده وقهره وتهديده للشعوب
والأمم المجاورة له، بل إن الأرض قد استراحت واطمأنت منه!!.
- كما إن "إشعيا" يريد أن
يتشفى من ملك بابل الذي يريد صعود نجمه إلى السماء، وكأنه مصاب بعقدة جنون العظمة وحب الظهور فيقول له:
«يا نجمة الصبح الزاهرة!
كيف هويت إلى الأرض
أيها القاهر الأمم!
كنت تقول في قلبك:
سأصعد إلى أعالي السماء
وأرفع فوق كواكب الله عرشي.
...
لكنك انحدرت إلى عالم الأموات،
إلى أعماق الهاوية.
يتفرس من يراك ويسأل:
أهذا الذي زلزل الأرض؟
أهذا الذي زعزع الممالك؟
جعل العالم مثل القفر
ودك إلى الأرض مدنهن
-
أما علاقة ملك بابل مع شعبه ومملكته فهو الذي قد تسبب بهلاكهم
ودمارهم لذا لن يسمح له بأن يدفن بينهم:
« لن يجمعك وإياهم مدفن،
لأنك أنت دمرت أرضك
وتسببت بقتل شعبك.
نسل الأشرار لا يذكر أبداً،
فبنوهم يذبحون بإثم آبائهم.
لا يقومون ولا يرثون أرضهم،
-
إن لحظات إسقاط بابل كما يصورها "إشعيا" لحظات
رهيبة، فيقول:
« وحي على بابل: كالزوابع تجتاح
الصحراء يجيء الخراب من أرض مخيفة! رأيت رؤيا قاسية: الناهب ينهب والمدمر يدمر
(إشارة إلى العيلاميين والماديين(10)).
اصعدي للهجوم يا عيلام. حاصري المدن يا ماداي. ضعي حداً لكل نواح»(11).
فالخراب الذي يلحق ببابل سوف يأتي من
أرض مخيفة، والحرب يجب أن تكون كالزوابع التي تجتاح الصحراء، بحيث يجب أن يترافق
معها النهب والتدمير لكل ما فيها حتى تتقوض كل حضارة بابل وما فيها!!. وليس ذلك
إلا من أجل إسرائيل كما يقول الرب على لسان "إشعيا": «لأجلكم سأرسل
إلى بابل من يحطم مغاليق أبوابها ويجعل ترنيم شعبها نواحاً. أنا الرب قدوسكم، خالق
إسرائيل وملككم»(12).
وإذا
كانت نبوءة "إشعيا" حول الانتقام من بابل واضحة فإن نبوءة
"إرميا" لا تختلف عنها كثيراً إلا من حيث شدة الحقد والرغبة المكبوتة في
النيل منها بكافة الوسائل والأساليب. فنبوءة "إرميا" كما هي نبوءة
"إشعيا" مصدر إلهام، وموضع تنافس وحرص بين اليهود لنيل بركتها في السعي
لتدمير بابل والانتقام منها!. وحرص اليهود على القيام بذلك مستمد من حرص إلههم
"يهوه" الذي توعد بالانتقام لشعبه وأوضح لهم الخطة التي يجب أن ينفذوها
قائلاً: « ها أنا أحرّض وأصعد على بابل حشداً من أمم عظيمة تجيء من أرض الشمال.
يصطفون عليها ومن هناك تؤخذ. هم كصياد ماهر، سهامهم لا تخطئ. فتسلب أرض البابليين
ويشبع سالبوها... اصطفوا على بابل من كل جانب يا رماة السهام. ارموا عليها. خطئت
على الرب فلا توفروا السهام. اهتفوا هتاف الحرب حولها، فتستسلم وتنهار أسسها
وتنهدم أسوارها. لذلك هو انتقام الرب. فانتقموا منها، وكما فعلت بالآخرين افعلوا
بها. أبيدوا الزّارع من بابل والحاصد وقت الحصاد، فيهرب كل واحد من وجه السيف
ويرجع إلى شعبه وأرضه». ويستمر إله اليهود بشرح خطته بدقة وتفصيل قائلاً: «اصعدوا
إلى أرض مراثايم (منطقة تقع عند مصب دجلة والفرات) وإلى سكان فقود (قسم من منطقة
مراثايم). اتبعوهم واقتلوهم وافعلوا كل ما أمرتكم به...نصب لك يا بابل فخ، فعلقت
وما شعرت. انفضح أمرك وانغلبت لأنك تحديت الرب. فتح الرب خزائن أسلحته واخرج آلات
غضبه، لأن له مهمة في أرض البابليين. انقضوا عليها من كل جانب ...ويل لسكان بابل!
حان يوم عقابها»(13).
أما
ملك بابل يجب أن يُسقط من دون أن يجد مساعدة من أحد، ويجب أن تحرق مدنه كما في
النص: «أنا عدوك أيها الباغي. جاء يوم عقابك. سيعثر الباغي ويسقط ولا أحد
يقيمه، وأشعل ناراً في مدنه فتأكل كل ما حوله»(14).
-
الحركة الصهيونية والنبوءة على بابل:
إذا كانت الحركة
الصهيونية هي آخر الحركات التي انبثقت من الفكر الديني اليهودي، لتعمل على تحقيق
النبوءات التي جاءت فيه، لكنها ليست الأولى فقد سُبقت بالعديد من الحركات اليهودية
بأطوار سياسية مختلفة حاولت العودة باليهود إلى فلسطين، وإقامة دولة لهم على أنقاض
الدولة التي قضى عليها "نبوخذ نصر" عام (587ق.م) (15).
فالحركة الصهيونية من خلال أيديولوجيتها
التي طرحتها اعتبرت نفسها بأنها الخطوة الأولى لبداية الخلاص الذي ينتظره اليهود،
وذلك من خلال تدخلها كوسيط في مجريات الأحداث لحل "مشكلة اليهود" عن
طريق استخدام أسلوب عملي منظم وفق الشروط الدينية التي يتطلبها عصر الخلاص والتي
منها الانتقام من الذين تسببوا في النهايات التاريخية لأحلامهم!. ومن هنا يمكننا
القول: إن الحركة الصهيونية قد ربطت مصيرها بمشروعها السياسي، وقدرته على تحقيق
نبوءات عصر الخلاص، فإذا فشلت في ذلك فقدت مصداقيتها، وحل بها وباليهود الدمار
والهلاك الأبدي!.
ومن هنا حرصت الصهيونية على أن تقوم
بالدور الذي قام به "إشعيا" من قبل، مستغلة الظروف الدولية المحمومة
بالأطماع الاستعمارية تجاه البلاد الإسلامية لتضع نفسها في خدمة تلك الدول بغية
الحصول على مساندتها في تحقيق أهدافها المسيحانية القديمة التي بشر بها "إشعيا"
الذي حسب في ذلك الزمن أن ما قام به كورش من احتلال بابل، والسماح لليهود بالعودة
إلى فلسطين، هو عمل يتفق مع نبوءته بعصر الخلاص التي بشر بها اليهود، وذلك في
محاولة منه لزرع الأمل في نفوسهم بالمشروع الديني بأرض الميعاد. لكن الفارق بين ما
قام به "إشعيا" والصهيونية هو أن "إشعيا" اقتصر في عمله على
الدعوة إلى التمسك بتعاليم الشريعة اليهودية وانتظار الخلاص وتحقيق النبوءات،
بينما الحركة الصهيونية استفادت من دعوة "إشعيا" الإيمانية بإعادة الأمل
لليهود مجدداً بأرض الميعاد، ووضعت الخطط العملية لتحقيق ذلك، واعتبرت أن ما تقوم
به يشكل المرحلة الأخيرة التي تسبق مرحلة مجيء المسيح المنتظر، وإقامة مملكته التي
سوف تحكم العالم. وقد قال بن جوريون معبراً عن إيمانه بتحقق النبوءات الدينية:
«لقد آمنا طوال آلاف السنين بنبوءات أنبيائنا. وبيننا أشخاص يعتقدون بمجيء المسيح
الذي سيجمع يهود العالم، أحياء وأمواتاً في الأرض المقدسة»(16). وقال أيضاً: «إن دولة إسرائيل هي أداة
لتحقيق هذه الرؤيا المسيائية».
فالحركة الصهيونية قد ورثت الحقد على
بابل، ووضعت الخطط للانتقام التاريخي منها وفق النبوءات الدينية التي انطلقت من
خلالها لتحقيق مشروعها الاستعماري، ومن هذه الخطط ما نشرته صحيفة كيفونيم التي
تصدر في القدس عن المنظمة اليهودية العالمية، وذلك في العدد(14) شباط عام 1982،
تحت عنوان خطط إسرائيل الاستراتيجية، والتي تطالب فيها بتفتيت الدول المجاورة
لإسرائيل، ونقتبس منها: «..ينبغي أن يكون تقسيم كل من العراق وسوريا إلى مناطق
منفصلة على أساس عرقي أو ديني أحد الأهداف الأساسية لإسرائيل على المدى البعيد،
والخطوة الأولى لتحقيق هذا الهدف هي تحطيم القدرة العسكرية لهذين البلدين... أما
العراق، ذلك البلد الغني بموارده النفطية والذي تتنازعه الصراعات الداخلية، فهو
على خط المواجهة مع إسرائيل. ويعد تفكيكه أمراً مهماً بالنسبة لإسرائيل، بل إنه
أكثر أهمية من تفكيك سوريا، لأن العراق يمثل على المدى القريب أخطر تهديد
لإسرائيل»(17). وقد كشف "عوزي
لانداو" وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي قبيل بدء الحرب الأخيرة على العراق عن
رغبته المحمومة في حصولها قائلاً: «إننا نبتهل ونصلي ألا يسمح صدام حسين للمفتشين
الدوليين بالعودة للتفتيش في العراق، نريد أن يقدم النظام العراقي المسوغات لإدارة
بوش لكي تنفذ مخططاتها تجاه العراق. هذا ليس سراً. نحن لا نريد العراق بصيغته
الحالية».
-
أثر النبوءة الدينية في الحرب على
العراق:
لقد كُتب الكثير عن الأبعاد الدينية
التي قادت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها الرئيسة بريطانيا في الحرب ضد
العراق 2003، وأثر النبوءة الدينية اليهودية التي دفعت قادة تلك الدول في إعلان
حرب ذات طابع ديني بارز لا يخفى على أحد. وقد نقل عن بوش قوله: إنه كان يقرأ قبل
اتخاذه قرار العدوان على العراق كل يوم في "الكتاب المقدس" لكي يستلهم
القرار المناسب، وقد قيل: إنه كان يقرأ المزمور (137: 8-9) الذي ينص على«يا
ابنة بابل الصائرة إلى الخراب، هنيئاً لمن يعاقبك على ما فعلته بنا. هنيئاً لمن
يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة».
فليس من الغرابة أن يؤمن بوش بتلك
النبوءة إذا كانت الأهداف اليهودية المتعلقة بالعراق هي ذاتها أهداف الصهيونية
المسيحية في بريطانيا وأميركا التي تتخذ من التوراة قاعدة ومنطلقاً لها، ومن الأسر
البابلي محوراً للقصاص من العراق في كل عصر وزمان. وبخاصة إذا علمنا أن من خطط
لهذه الحرب شخصيات صهيونية يهودية بارزة أمثال: "دوغلاس فيث" وهو عضو
بارز في المنظمة الصهيونية الأمريكية، و"ريتشارد بيرل" الذي ترأس فريق
دراسة الحرب على العراق، وكان يعمل عضواً
في مجلس إدارة "المعهد اليهودي لدراسات الأمن القومي"، "وبول
وولفيتز" منظر الحرب على العراق، وأحد واضعي خطط هذه الحرب. و"ريتشارد
هاس" عضو مجلس الأمن القومي، ومستشار نتنياهو سابقاً، وهو من أكثر المتشددين
في الدفاع عن نظرية الحرب على العراق وإعادة رسم خريطة المنطقة من جديد.(18)
لذا لم يكن غريباً أن تضرب العراق في حملة انتقام جديدة اتفقت مع النبوءات الدينية
اليهودية، لاسيما أن فعل الانتقام له جذوره التاريخية العميقة بدءاً من الحقد
اليهودي المتجذر في عقدة الأسر البابلي مروراً بتنامي عقيدة الصهيونية الأنجلوساكسونية
في كل من بريطانيا والولايات المتحدة وصولاً إلى تحكم رؤوس هذه الصهيونية في
قرارات ومؤسسات هاتين الدولتين.
فجوهر العداء نحو بابل تلك النبوءات
الانتقامية المستوحاة من الفكر الديني اليهودي المشبع بالحقد التاريخي على كل من
ساهم في صناعة النهاية التاريخية للأحلام والطموحات الاستعمارية في "أرض
الميعاد"، ولا شك أن ما قام به "نبوخذ نصر" كان أعظم النهايات التي
أوقفت المشروع اليهودي لأكثر من ألفي سنة سبقت وجود الحركة الصهيونية التي أخذت
على عاتقها فكرة إعادته من جديد، والانتقام من كل الخصوم التاريخيين لاسيما
المجاورين "لإسرائيل"، بما فيهم العراق حكومة وشعباً وأرضاً الذي ورث
الوزر الذي تحمله بابل منذ القديم وعلى مدى التاريخ، وعبر كل الأجيال القادمة!.
(5) وهنا أترك للقارئ أن يقارن هذا النص الديني
والنصوص الأخرى وكيف حاول اليهود بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن هو حليف
معهم في حربهم على العراق أن يحققوا تلك النبوءات على أرض الواقع من جديد!!.
(10) العيلاميون نسبة إلى عيلام منطقة تقع شرقي بلاد
الرافدين. أما الماديون فهم شعب عاش في أرض فارس وتحالف مع البابليين على
الآشوريين سنة 612ق.م، ثم تحالف مع الفرس على البابليين سنة 539ق.م.
(15) أشهر هذه
الحركات هي:
1-
حركة زربابل:( 0538ق.م) وهي
أول حركة أعقبت زوال الحكم اليهودي عن فلسطين. وكانت بقيادة زربابل وعزرا بعد أن
سمح كورش لهما ولليهود المسبيين بالعودة إلى فلسطين وإعادة بناء الهيكل. مقابل أن
يكون عوناً له في احتلال مصر. لكن هذه الحركة فشلت في إقامة كيان سياسي لأسباب
منها قلة عددهم.
2-
حركة المكابيين: نسبة إلى
الكاهن يهودا المكابي. وقد قامت ثورتهم عام 167ق.م، ضد الدولة السلوقية، بهدف
تأسيس دولة يهودية في فلسطين. ونتيجة اتفاق مع السلوقيين استطاع اليهود أن يقيموا
حكم وراثي إلى أن سقطت الدولة السلوقية على يد الرومان، عام 63ق.م.
3-
حركة باركوخبا: نسبة إلى
قائد الحركة العسكرية التي قامت 132م ضد الرومان. وقد سعى باركوخبا إلى إثارة
الحماس في اليهود وحثهم على التجمع في فلسطين وتأسيس دولة يهودية فيها. وتنصيب ملك
عليها من نسل داود. لكن الرومان تمكنوا من القضاء على هذه الحركة عام 135م، ودمروا
القدس ومحو اسمها وأطلقوا عليها اسم (إيليا كابيتولينا)، كما دمروا الهيكل وأقاموا
على أنقاضه معبداً وثنياً.
4-
حركة دافيد ريوبيني: نسبة
إلى اسم قائدها اليهودي(1490- 1535م) الذي ادعى بأنه المسيح المنتظر وأنه جاء
لينقذ اليهود ويعيدهم إلى فلسطين وتوطينهم. لكنه فشل وماتت حركته بقتله.
5-
حركة منشه بن إسرائيل: نسبة
إلى اسم قائدها اليهودي(1604- 1657م)، وهو عالم في اللاهوت. وقد دعا هذا اليهودي
الإنجليز البروتستانت إلى إعادة توطين اليهود في بريطانيا، توطئة لإعادة توطينهم
في فلسطين. وتعتبر هذه الحركة النواة الأولى للحركة الصهيونية المعاصرة. انظر:
أحمد الزغيبي: العنصرية الصهيونية، مج1/ ص210-222.
