مفهوم
السلام عند اليهود
سلام الوسيلة وسلام الهدف
الدكتور جبر الهلّول
لقد تفرد
اليهود بمفهوم خاص للسلام يتناسب مع قيمهم الأخلاقية ومفاهيمهم الدينية. هذا
التفرد جعلهم لا يلتزمون بميثاق أو عهد مع غيرهم من البشر. ويتأكد ذلك من مجرد
قراءة سريعة لمصادر فكرهم الدينية (التوراة وما لحق بها من أسفار والتلمود) أضف
إلى ذلك الأناجيل والقرآن الكريم والسنة النبوية.
وإذا كانت
العهود والمواثيق بين البشر هي التي تضع حداً للصراع فيما بينهم، وتبرهن على
جديتهم في الرغبة في التعايش في سلام وفق مجموعة من القيم والمفاهيم المشتركة
بينهم. فإن الحال مختلف مع اليهود الذين ما فتئوا ينقضونها بشكل مستمر مما يوحي
بشكل قاطع أن هناك خلل جسيم بين الطرفين، حتى بات النقض لالتزاماتهم خصلة متأصلة
في سلوكهم وممارساتهم. وهذا الخلل ناجم عن العقيدة اليهودية التي جعلت من اليهود
"شعب الله المختار" وغيرهم من البشر "غوييم".
فنقض العهد
والميثاق عند اليهود نابع من عقيدة يؤمنون بها، وجبلة نشئوا عليها، وسلوك اعتادوا
عليه. وقد يعجب القارئ من كيفية التزام اليهود بهذه العقيدة والتفاخر بها،
والمحافظة عليها في أجيالهم وعبر كل العصور. مع العلم أن نقض العهد ونكث الميثاق
خصلة مذمومة مرذولة، ومن مساوئ الأخلاق عند جميع الأمم والشعوب باستثناء اليهود
الذين يرون في تلك الخصلة فضيلة خلقية تتناسب مع قيمهم وأخلاقهم التي قامت على
الأسطورة والخرافة في كثيرة من جوانبها.
ولكي لا يعتقد
أن هناك تجنياً على أخلاق اليهود وقيمهم، وأن هناك انتقائية في اختيار النصوص
والأفكار، أردت أن أوضح أن ما ذكر من أخلاق اليهود وممارساتهم مع الآخر من غير
اليهود ما هي إلا جزء يسير من حقيقتهم ومعتقداتهم قد لا تعطي الصورة الكاملة التي
رسمها فكرهم الديني لهم. لكن الذي يجدر ملاحظته أن ما نراه من رذيلة ونقائص خلقية
في سلوكهم هم يرونه واجباً دينياً يعتزون به ويتسابقون في كسب رضا إلههم يهوه في
القيام به، لذا واجبنا لكي نقترب من الشخصية اليهودية والتعرف عليها أن ندرسها من
خلال قيمها ومبادئها التي تؤمن بها وتؤثر فيها. فمثلاً عندما ينقض اليهود
التزاماتهم مع غيرهم عملاً بوصية إلههم لهم التي تقول: «احترز من أن تقطع عهداً مع
سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخاً في وسطك..»[1]،
أو في قوله: «لا تقطع لهم ولا مع آلهتهم عهداً...»[2].
فإن ذلك الالتزام بالنقض للعهود يأتي متوافقاً مع الأمر الديني الذي يمثل قمة
الأخلاق اليهودية التي هي حكر عليهم باعتبارهم يمثلون الجانب الإنساني الوحيد على
الأرض ـ كما يزعمون ـ وأن غيرهم سلب ذلك الجانب وحقوقه سوى الجانب الشكلي الذي
يماثلهم فيه، وذلك لغايات ومآرب تعود لمصلحتهم فقط.
فنقيصة نقض
العهد والميثاق عند اليهود تؤكد على استحالة تمسكهم بالتزاماتهم مع غيرهم. وهذه
الاستحالة ليست كشفاً علمياً، وإنما طبيعة المغايرة ـ من وجهة نظرهم ـ بينهم وبين
"الغوييم" تقتضي ذلك، والدليل على ذلك ممارساتهم على أرض الواقع التي
تعتبر تعبيراً عن نظرتهم للحياة وتطبيقاً لمفاهيمهم الخاصة بها. ومن تلك المفاهيم
مفهوم السلام الذي يتحدثون به من خلال كتبهم الدينية التي يستمد منها اليهود فكرهم
السياسي بجميع مقوماته الأيديولوجية والاستراتيجية.
وقد حرص اليهود
منذ بدايات طرح مشروعهم الاستعمارية لفلسطين، وإعلان قيامه عام 1948 ولغاية الآن،
على الدعوة والمطالبة والحديث عن السلام مع العرب. وقد استطاعوا توقيع عدة
اتفاقيات تسوية مع بعض الدول العربية، كانت تصب جميعها في مصلحة اليهود ومخططاتهم.
لكن مع ذلك انتهكوا ونقضوا التزاماتهم فيها، وبخاصة تلك الاتفاقيات التي وقعت
بينهم وبين الجانب الفلسطيني بدءاً من اتفاق أوسلو عام 1993، فقد أمست أثراً بعد
عين في عملية "السور الواقي" التي قادها "شارون" بتاريخ
29/3/2002 بعدما عدلت مرات عدة من قبل الجانب اليهودي!.
والسؤال الذي
يطرح هنا: لماذا ينادون بالسلام ويمارسون الحرب؟ وهل هناك اختلاف بين السلام
والحرب من حيث آثارهما بالنسبة لهم؟.
وللإجابة على
ذلك أقول: إن عقيدة الاصطفاء والاختيار هي القاعدة الأساسية في تعامل اليهود مع
الآخرين، وقد جاء في التلمود: «نحن شعب الله في الأرض، سخر لنا الحيوان الإنساني،
وهو كل الأمم والأجناس سخرهم لنا لأنه يعلم أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع
أعجم كالدواب والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل الشرق والغرب. إن اليهود
من عنصر الله كالولد من عنصر أبيه، ومن يصفع اليهودي كمن يصفع الله»[3].
هذه العقيدة
تؤدي إلى وجود طرفين عند اليهود: طرف بشري إنساني وهذا حكر عليهم، وطرف دوني
لا يرقى إلى مستواهم في المكانة والتكوين وهو كل البشر من غير اليهود، ولذلك
السلام والمعاهدات هي علاقة بين طرفين متساويين متكافئين، لكن من وجهة نظر اليهود
هذا مستحيل لعدم وجود الطرف الإنساني المقابل لهم، لذا يأتي تعاملهم مع الآخر
وكأنه تعامل بين إنسان وحيوان لا أكثر. وهذا الحيوان ليس من الحيوانات الأليفة بل
إنه من الحيوانات المتوحشة!. ولو عدنا إلى توراتهم نجد أن إلههم قد وعدهم بامتلاك
أرض الغير الغوييم: « في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام عهداً قال: لنسلك أهب هذه
الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات...»[4]،
كذلك ورد فيه: «وقال الرب لموسى: قل لبني إسرائيل ستعبرون الأردن إلى أرض كنعان،
فتطردون جميع سكانها من أمامكم، وتبيدون جميع منقوشاتهم...»[5].
إننا نلاحظ من خلال النص الديني أن الحرب كفكرة قد غرست في نفوس اليهود قبل
استيلائهم على الأرض التي وعدوا فيها، فإلههم يملكهم من خلال الوعد أرضاً مسكونة،
ولا يمكن لهؤلاء السكان أن يغادروا أرضهم ويتخلوا عن ممتلكاتهم عن طيب خاطر لكي
يحتلها اليهود ويستلموها بناء على وعد مزعوم. لذلك أدرك اليهود هذه الحقيقة وعلموا
أنه لا يمكنهم الحصول على "أرض الميعاد" إلا عن طريق الحرب، ومواجهة تلك
الشعوب التي يعتقدون أنها محتلة لأرضهم التي أعطيت لهم، وان تلك الشعوب سلبت تلك
الآدمية التي يتمتعون بها، لذلك يحرم عقد أي سلام معهم، أو التعامل معهم بعطف أو
رحمة، وإنما يجب عليهم امتلاك أراضيهم بالقوة، وحرمانهم من العيش عليها إلا كما
يعيش الحيوان تسخيراً وخدمة وقتلاً وطرداً.
من هنا، كل
تسوية أو معاهدة بينهم وبين هؤلاء السكان هي باطلة بمقتضى شريعتهم، لأنها تمنع
وتعيق من استيلائهم على كامل الأرض الموعودة وفق تعاليمهم الدينية كما ورد في
توراتهم: «وأجعل حدود أرضكم من البحر الأحمر جنوباً إلى البحر المتوسط غرباً، ومن
الصحراء شرقاً إلى نهر الفرات شمالاً، وأسلم إلى أيديكم سكان الأرض فتطردونهم من
أمام وجوهكم. لا تقطعوا لهم ولا لآلهتهم عهداً. ولا يقيموا في أرضكم لئلا يجعلونكم
تخطئون إلي...»[6].
فإلههم قد حرم
عليهم معاهدة الغوييم والتعامل معهم والالتصاق بهم، إذ لا عيش مشترك بين طرفين إلا
على سبيل الاستثناء والمخادعة والنفاق والمصلحة، كما ورد في التلمود: «إن العهد
إذا أبرم يجب أن يبرم بين طرفين متكافئين، ولما كان الأممي لا يساوي اليهودي فإنه لا يحق لليهودي فإنه لا
يحق لليهودي إبرام عهد مع الأممي، وحتى لو أبرم عهداً بظرف ما فهو في حل منه عند
زوال السبب».
ولو قارنا بين
ما جاء في الفكر الديني اليهودي مع واقع اليهود في فلسطين في العصر الحاضر لوجدنا
التشابه بين العقيدة اليهودية وبين الأسس التي قامت عليها الحركة الصهيونية في
استعمارها لفلسطين. فالصهيونيون قد طرحوا مشروعهم وقاموا به على أساس الوعد الإلهي
أولاً، ومن ثم يجب عليهم تهجير اليهود المنتشرين في العالم إلى فلسطين التي هي في
نظرهم أرض خالية خربة، والفلسطينيون الذين يعيشون فيها هم غائبون من العقلية
الصهيونية اليهودية وفق النظرة الدينية، لذلك قالوا: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وبما أن
الفلسطيني غائب من العقلية الصهيونية باعتباره يفتقد الآدمية التي يتمتع بها
اليهود، لذا لابد من طرده وقتله وممارسة جميع أنواع الإرهاب والعنف، لكي يتمكن
اليهود من العودة إلى أرضهم ـ كما يزعمون ـ لإعمارها وفق العبقرية اليهودية
ويعيشون السلام الذي يحلمون به. وطالما أن ذلك لم يتحقق لهم بعد، فإن الحرب ستبقى قائمة،
وإن وقعت معاهدات السلام مع بعض الحكام العرب، لأن هذا السلام ليس
هو الهدف الذي يسعون وراءه، وإنما هذا السلام هو سلام الوسيلة التي تخدم أهدافهم
التوسعية. وهذا ما صرح به "بيغن" بعد توقيعه معاهدة السلام مع مصر
بقوله: «لن يكون هناك سلام لشعب إسرائيل ولا أراضي إسرائيل حتى ولا للعرب. ما دمنا
لم نحرر وطننا بأجمعه بعد. حتى ولو وقعنا معاهدات الصلح». لكن "ديفيد بن
جوريون" كأن أكثر صراحة وأقدم من قول "بيغن" في تحديد معنى السلام
الذي يتكلمون به ويوقعونه في اتفاقيات تسوية مع الحكام العرب، حيث قال عام 1936
رداً على مقترحات لمصالحة عربية ـ يهودية: «ونحن نحتاج إلى اتفاق مع العرب، ولكن
ليس لتحقيق السلام في هذا البلد. السلام شيء حيوي حقاً بالنسبة لنا، فلا يمكن
لدولة أن تبنى وهي في حالة دائمة من الحرب ولكن السلام لنا هو مجرد وسيلة.
والهدف هو
الوصول بالصهيونية إلى أعلى غاياتها. لهذا السبب فقط نحن نحتاج السلام»، «والشعب
اليهودي لا يمكن ـ ولن يجرؤا ـ أن يقبل أي اتفاق لا يخدم هذا الهدف »[7].
فالسلام الذي
تحدث عنه بن جوريون وقام به بعض زعماء اليهود من بعده، هو سلام الوسيلة وليس سلام
الهدف الذي يتوافق مع تراثهم الديني، هو السلام الذي يحقق لهم الهيمنة على جميع
مرافق الحياة في البلاد العربية، وتكون آثاره ونتائجه متوازية مع آثار الحرب
ونتائجها. فكلاهما الحرب والسلام يمثلان وجهين لعملة واحدة، وكلاهما مسخر لتحقيق
الحلم الصهيوني في إقامة دولة يهودية تكون فلسطين هي القاعدة "لإسرائيل الكبرى"
الممتدة من الفرات إلى النيل، ولتكون "إسرائيل العظمى" التي تسيطر على
الاقتصاد في البلاد العربية والإسلامية والتي أطلق عليها من قبل الدول الاستعمارية
"منطقة الشرق الأوسط". كما لا يخفى أن سلام الوسيلة له أهميته
الاستراتيجية بالنسبة لليهود، إذ يحقق لهم الاعتراف بكيانهم من قبل العرب، ودخولهم
معهم في علاقات سياسية واقتصادية تكفل لهم وقوع بلدانهم في تبعيتهم.[8]
وقد أقر بن جوريون بذلك بقوله:«إن النموذج الصهيوني هو نموذج حضاري يرمي للهيمنة».
وكذلك "أبا إيبان" في قوله: «إن إسرائيل لا تريد سلاماً على الورق فقط،
ولا حدوداً محكمة الإغلاق». وقال شامير أيضاً: «إن معنى السلام عند الإسرائيليين
لا يعني فقط أن تقبل إسرائيل ولكن أيضاً أن تقبل الصهيونية»[9].
وإذا كان هذا
هو سلام الوسيلة فما هو سلام الهدف الذي هو المعنى المقصود من السلام اليهودي الذي
له معنى خاصاً في عقليتهم لا يمكن أن يعلمه غيرهم إلا من حاول دراسة فكرهم الديني
وتعمق فيه، وقارن بينه وبين فكرهم السياسي الذي يطبقونه الآن في كيانهم
الاستعماري؟.
ولتحديد مفهوم
السلام بمعناه الدقيق نستعرض أولاً كلاماً "لبيغن" قال فيه: «... نحن
نحارب نحن موجودون... وإذا لم نحارب سوف نفنى الحرب هي الطريق الوحيد للخلاص..
والحرب أيضاً هي الطريق الوحيد الذي يجعلنا ـ نحن اليهود ـ لا نتحول إلى قطيع من
الرقيق ... وإنما إلى أسياد ومسيطرين»[10].
فالحرب هي طريق
الخلاص كما يعتقد "بيغن" وسائر اليهود، وهذا الخلاص هو السلام الذي
ينشده اليهود ويحلمون أن يوماً ما سيصلون إليه.
فرؤيا الخلاص
من الأسس الجوهرية التي قامت عليها الصهيونية في تهجير يهود العالم إلى فلسطين
باعتبار أن هذه الرؤيا تقوم عليها اليهودية في نظرتها للمستقبل، وتشغل حيزاً
كبيراً من تفكير اليهود وسلوكهم. وهذه الرؤيا تعني أنهم في آخر الزمان، أي بعد
تنفيذ مشروعهم الصهيوني بكامله، وتحقيق الوعد الإلهي لهم، حيث تخضع كل شعوب الأرض
لسيادتهم وسيطرتهم، بعدما انتهوا من بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى في
القدس، وخاضوا حرباً كونية عظيمة سحقوا فيها أبناء الظلام ـ بزعمهم ـ عندها يبعث
فيهم المسيح عيسى عليه السلام لأول مرة ـ لأنه بنظرهم لم يأت بعد ـ فيحكم بموجب
الشريعة اليهودية، وعندها تنبذ البشرية الحرب ويحل السلام، ويستشهدون على ذلك
العصر بما جاء في سفر إشعيا: «يكون في الأيام الآتية أن جبل بيت الرب يثبت فوق
التلال، إليه تتوافد جميع الأمم، ويسير شعوب كثيرون يقولون: لنصعد إلى جبل الرب
إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا أن نسلك طرقه فمن صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة
الرب. الرب يحكم بين الأمم ويقضي لشعوب كثيرين، فيصنعون سيوفهم سككاً ورماحهم
مناجل. فلا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب من بعد»[11].
فالسلام الذي
يحلمون به لن يأتي إلا عن طريق إخضاع جميع أمم الأرض لهم التي ستسعى ذليلة متلهفة
للسير على طريق اليهود، والخضوع لأحكام شريعتهم. وقبل تحقق هذه الرؤيا فإنهم لن
يعرفوا السلام لغيرهم سوى سلام الوسيلة
الذي هو مرحلة من مراحل حياة اليهود.
والسلام بنوعيه
ـ سلام الوسيلة وسلام الهدف ـ هو سلام العبودية الذي لن يأتي إلا عن طريق القوة
المادية القاهرة، والمتفوقة عسكرياً، والمهيمنة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً
وإعلامياً، ويجعل من جميع الشعوب والأمم خدماً وعبيداً لهم. والفارق بينهما أن
سلام الوسيلة هو استمرار للحرب بكل صورها وأشكالها، بينما سلام الهدف هو النتيجة
النهائية السعيدة التي يعتقد اليهود أنها المحصلة النهائية لجميع حروبهم منذ إن
وجدوا على الأرض.
إن المقارنة
بين مفهوم السلام الهدف الذي يعنيه اليهود بخطبهم
ويسعون للوصول إليه بجدية، وبين واقعهم اليوم من خلال كيانهم الذي أقاموه
على أرض فلسطين، نجد أن السلام الحقيقي بالنسبة لهم ما زال بعيد المنال، وذلك لأن
مشروعهم الاستعماري لم ينفذ منه إلا جزء صغير، وأرض الميعاد التي تمتد من نهر
الفرات إلى نهر النيل لم يحصلوا منها إلا على فلسطين، كما إنهم لم يستطيعوا لغاية
الآن إقامة دولة خاصة باليهود، فالعنصر العربي ما زال له وجود يشكل خطراً يقض
مضجعهم ويعيق جميع خططهم وطموحاتهم وبخاصة أنهم لم يفلحوا في اقتلاعه من أرضه
واستئصاله.
من هنا يمكن
القول: إن السلام الذي ينادون به لهذه المرحلة هو سلام الوسيلة الذي يريدون من
خلاله أن يصلوا إلى ما عجزوا عن طريق الحرب في الوصول إليه، وقد جاء في سفر ميخا:
«ينادون بالسلام إذا كان لهم ما ينهشونه بأسنانهم، ويفرضون الحرب على من لا يملأ
أفواههم»[12].
إن السلام الذي
يطلبه اليهود من العرب ينسجم مع سلام الوسيلة، ولإيضاح ذلك نرجع إلى كتاب
"شمعون بيريس" "الشرق الأوسط الجديد" حيث نجده يتحدث عن الحرب
والسلام وكأن السلام هو الخيار الوحيد أمام العرب لاسيما بعد هزيمتهم في الحروب
السابقة أمام إسرائيل القوية التي لا تهزم!!. إذاً فالسلام الذي يطرحه بيريس هو
سلام العبودية، سلام المنتصر مع المهزوم، سلام اللاخيار فيه، لا سلام العدل
والتكافؤ الذي تعرفه الشعوب فيما بينها.
فالرؤية التي
طرحها بيريس في كتابه رؤية واضحة في أبعادها المتعددة وأغراضها المتنوعة، حيث في
ظاهرها دعوة إلى السلام، لكن في ثناياها استراتيجية توسعية راسخة في الفكر اليهودي
الديني والسياسي، وتقوم على ضرورة الهيمنة على المنطقة بكاملها لكن بطرق وأساليب
تتناسب مع العصر وتقدمه التقني. ومن خلال ما طرحه بيريس من مفهوم "إسرائيل
العظمى" حيث السيطرة على الاقتصاد والهيمنة على الشرق الأوسط ندرك أي سلام
يريد وأي معنى يقصد.
أما
"بنيامين نتنياهو" فقد كان أكثر صراحة في حديثه عن مفهوم السلام الذي
يؤمنون به، فقد تحدث في كتابه " مكان بين الأمم" عن نوعين من السلام،
وتساءل: هل يمكن إقامة سلام بين دولة ديمقراطية ـ ويقصد بذلك كيانهم ـ وأخرى
دكتاتورية ـ ويقصد الدول العربية ـ وأجاب عن ذلك بالإيجاب ولكن عن طريق القمع
والردع والإخضاع.
ففكرة سلام
الردع التي تكلم عنها نتنياهو تنسجم مع فكرة السلام في الفكر الديني اليهودي
والفكر السياسي الصهيوني، ويطرح من خلالها مفهومي السلام: سلام الوسيلة وسلام
الهدف في آن واحد. وقد عبر عن ذلك في اليوم الأول لتوليه رئاسة الحكومة
الإسرائيلية في حزيران عام 1996، حيث قال بوضوح: «حدود إسرائيل الكبرى موجودة لمن
لا يعلم في التوراة ...وعلم إسرائيل الكبرى لمن لا يرى عليه خطان زرقاوان يمثلان
النيل والفرات، وبينهما نجمة داود الذي سوف تعيد مملكته ثانياً مهما طال الزمن،
وسوف تشهد مملكته أيضاً إحلال الشعب اليهودي وثقافته مكان ما هو غير يهودي في أرض
الميعاد. لهذا لن نترك أرض الجولان، ومصر هي الأخرى تعرف جيداً أن السادات لم يوقع
معنا اتفاقية كامب ديفيد إلا بعد أن ذاق مرارة الهزيمة في حرب 1973 ورأى الجيش
الإسرائيلي وهو في طريقه إلى القاهرة»[13].
كما قال أيضاً: «وبناء على اتفاقيات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، وبناء
على إمكانية توسيع هذه الدائرة لتشمل دولاً أخرى. يمكننا تحقيق سلام في الشرق
الأوسط، ولكن في حالة معرفة أي نوع من السلام يمكن تحقيقه في هذه المنطقة»[14].
من خلال ما سبق
يمكننا القول: إن لليهود مفهوماً خاصاً للسلام ينبثق من فكرهم الديني الذي ارتكز
عليه الفكر الصهيوني بكل مقوماته، وما قاموا به أو سيقومون به من معاهدات
واتفاقيات للسلام يأتي ضمن هذا المفهوم حصراً، كما وإن ما جرى وما قد يجري من
معاهدات بينهم وبين بعض الدول العربية، ما هي إلا مرحلة من مراحل تنفيذ المشروع
الصهيوني الاستعماري الكبير، وإن الالتزام بها لا قيمة له باعتبارها وسيلة لهدف
ثابت لن يتغير في عقيدتهم الدينية التي تربوا عليها.
هذه العقيدة
تجمع اليهود حولها، وتوحد بين أفكارهم وطموحاتهم وأحلامهم المستقبلية، لاسيما
القادة منهم، حيث لا اعتبار هنا لاختلاف أحزابهم وتجمعاتهم وفرقهم التي تبدو في
بعض الأحيان مختلفة ومتباينة في مواقفها، إلا أن هذا لا يعدو كونه تنافساً يتمحور
حول الوسائل الموصلة إلى الهدف الثابت الذي لم يتحقق منه لغاية الآن وفق مخططاتهم
إلا جزء صغير فقط.

الإبتساماتإخفاء الإبتسامات