ولكن بالنظر إلى العدو المؤكد الذي يسكن الأرض التي وعد بها اليهود، فهو ذو كثافة عددية مترابطة تمتد على مساحة جغرافية واسعة متصلة، من المستحيل إفناؤه أو إزالة عداوته وعدائه لليهود، بالرغم من محاولته إزاحة أكبر عدد ممكن من الذين يسكنون فلسطين قاعدة "أرض الميعاد" ومقر قيادة دولتهم الزمانية والكونية التي يسعون إلى فرض سلطانها على العالم كله ضمن رؤى دينية مستقبلية يؤمنون بها، وبالرغم من عملية التهجير المنظم والمكثف لليهود للاستيطان فيها والتي ترافقت مع ممارسة كافة أنواع الإرهاب من قتل ومجازر جماعية في محاولة منهم لإفراغ جزء من الأرض من سكانها لتكون قاعدة للمشروع الصهيوني، إلا أن القيادة الصهيونية أدركت منذ البداية أن محيط العداء المتنامي لا يمكن القضاء عليه، وأن السلاح التقليدي المتفوق لا يمكن أن يضمن الحماية والدفاع عما تم إنجازه من المشروع الصهيوني، ولا يمكن أن يحقق نجاح مبدأ الردع على المدى الطويل في منطقة تشهد تنافسًا في امتلاك الأسلحة التقليدية التي إذا تضافرت وتكتلت في يوم ما على نحو شكل من أشكال التوحد فسيشكل ذلك خطراً أكيداً على مشروعهم، ويتهدد وجودهم، وتفشل مخططاتهم المستقبلية في المنطقة، وبخاصة أنهم على قناعة تامة أن كل ما بنوه لا يحتمل خسارة فعلية في حرب واحدة بينهم وبين العرب المحيطين بهم من كل جانب الذين وإن تكرس فيهم الضعف العسكري مقارنة بما يمتلكه اليهود من قوة عسكرية متطور حديثة وسبل إمداداتها الخارجية وارتباطها بها ارتباطاً استراتيجياً بما يخدم مصالح تلك الدول التي تلاقت مع أطماعها الاستعمارية في المنطقة. كذلك عدم اطمئنانهم من مشروعات التسويات وعدم وثوقهم من اتفاقيات السلام التي كانت ثمرة انتصارهم ببعض الحروب التي قاموا بها، ونتيجة الضعف في الطرف العربي. لذا متى زالت الأسباب التي أدت إلى هذه الاتفاقيات فسينقلب العرب عليها. وبخاصة أن تلك الاتفاقيات لم تتجاوز نطاق الأنظمة التي وقعت عليها والمواقع الرسمية فيها.
فعدم الوثوق بالسلاح التقليدي على أهميته الكبرى بأنه لن يحقق الحماية والأمن المطلوب، مقارنة بحجم الخطر الذي يهدد المشروع الصهيوني باستمرار، كما أن ضمان نجاح "مبدأ الردع" وتعزيزه لا يمكن أن يقف عند حدود امتلاك الأسلحة التقليدية، بل يتعداه إلى الأسلحة غير التقليدية، وبخاصة أن القيادة الصهيونية التي عايشت أحداث الحرب العالمية الأولى والثانية وشاركت فيها بشكل يخدم مشروعها الاستعماري، كانت تراقب مدى أهمية امتلاك أسلحة غير تقليدية وأثرها في الحرب، لاسيما بعد أن استخدم هذا السلاح الجديد لأول مرة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بقصف مدينة "هيروشيما" و"ناجازاكي" اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، وقد أثبت هذا السلاح فعاليته في حسم نتيجة الحرب بشكل مباشر، بسبب القدرة التدميرية الهائلة التي ألحقها بالطرف الآخر.
من هنا، كان سعي القيادة الصهيونية لامتلاك الأسلحة غير التقليدية في وقت مبكر من تأسيس المشروع الصهيوني، وللوقوف على ذلك لابد في البداية من لمحة تاريخية موجزة حول هذا الموضوع، ومن ثم دراسة مدى أهمية امتلاك هذا السلاح في واقع المشروع الصهيوني.
لم يكن إعلان قيام "دولة إسرائيل" في (15 أيار عام 1948) بداية التكوين لمقومات الدولة، وإنما كان ذلك بمثابة ترجمة فعلية لامتلاك اليهود مقومات القوة التي تحتاج إليها الدولة في معركتها في الوجود ودوام الاستمرارية فيه. ولعل أوضح دليل على ذلك سعيها المبكر لامتلاك الأسلحة غير التقليدية، إذ مع بدء تولي "بن جوريون" شؤون منظمة "الهاجاناه" العسكرية في فلسطين، رصد أول المخصصات المالية لأغراض البحث العلمي المرتبط بالأمن الذي تحتاج إليه الدولة الجديدة، ففي بداية (شهر آذار من عام 1948) أنشئت "الوحدة العلمية" وأشرك فيها عشرات الفيزيائيين والكيميائيين، من "الجامعة العبرية" في القدس التي مضى على افتتاحها قرابة ربع قرن، و"معهد التخنيون" في حيفا، و"معهد وايزمن"، وكلفت "الوحدة العلمية" بإجراء أبحاث علمية في المجال العسكري، والقيام باختبارات ميدانية، لنتائج الأبحاث العسكرية والمساعدة في إنشاء صناعة عسكرية، والاتصال بالصناعة القائمة.
وشهدت "إسرائيل" عقب إعلان قيامها بناء البنية المؤسسية للعلوم في مختلف المجالات، ولعل أبرز ما أقيم في تلك الفترة وله صلة مباشرة بالأبحاث العسكرية فيها، "مخبر الفيزياء الإسرائيلي" عام (1950)، وتعيين "لجنة الطاقة الذرية" عام (1952)، وبناء أول حاسب إلكتروني في "معهد وايزمن للعلوم" عام (1950). وفي عام (1965) حدث تحول كبير في التفكير العلمي الرسمي حول قضايا العلم والتكنولوجيا، واستمر النمو السريع في المجالات العلمية خلال عقد السبعينات، وتمثل في ترسيخ دور المؤسسات العلمية القائمة وتوسيعها. ويلاحظ أن التوجه الإسرائيلي العلمي منذ بداية إعلان قيام إسرائيل كان يهدف بشكل مباشر إلى الحصول على سلاح نووي، واستخدام الطاقة النووية في المجالات الاقتصادية الأخرى.
ففي عام (1948) أنشأت "وزارة الدفاع الإسرائيلية" "شعبة الأبحاث والتخطيط"، لمسح صحراء النقب، والكشف عن اليورانيوم. وفي عام (1949) أنشأ العالم الكيميائي اليهودي الألماني "بيرجمان" رئيس قسم الكيمياء في "معهد وايزمن للعلوم" قسمًا لأبحاث النظائر المشعة، وقام بإرسال العلماء اليهود إلى الخارج لدراسة علوم الذرة والمجالات الجديدة للطاقة النووية. كما بدأ ببرنامج أبحاث مشتركة مع "لجنة الطاقة النووية الفرنسية" ساهم بشكل مباشر في تقدم المشروع النووي الإسرائيلي وبخاصة بعد توقيع اتفاق للتعاون مع فرنسا في مجالات الأبحاث النووية سمح بموجبه للعلماء الإسرائيليين بدراسة البرنامج النووي الفرنسي والمشاركة في اختباراته.
ونتيجة للنشاط البحثي الكبير في ميدان الطاقة النووية أنشأت إسرائيل عددًا كبيرًا من المفاعلات النووية من أهمها:
- مفاعل "رشيون ليتسيون": الذي كان أول مفاعل تنشئه إسرائيل لإنتاج النظائر المشعة وإجراء البحوث العلمية، وكان المفاعل من تصميم أمريكي حيث بدأ استخدامه بشكل فعلي عام (1957).
- مفاعل "ناحال سوريك" الذي افتتح عام (1958) بساهمة أمريكية في غرب مدينة "رحبوت" على شاطئ البحر المتوسط.
ويضاف إلى المفاعلات النووية في إسرائيل منشآت نووية في مجال بحوث الطاقة النووية أهمها:
«1- وكالة الطاقة النووية الإسرائيلية.
2- المجلس القومي للبحث والتطوير والذي يشرف على أبحاث العديد من المراكز والمعاهد، وتشمل:
أ- قسم العلوم النووية بمعهد وايزمن في رحبوت.
ب- معهد التخنيون في حيفا.
ج- مركز الأبحاث النووية في ناحال سوريك.
أهداف امتلاك السلاح غير التقليدي:
إن سعي إسرائيل لامتلاك أسلحة غير تقليدية لا ينفصل عن تحقيق أهداف عقيدتها الدينية، ومبادئها العسكرية، وأيديولوجيتها السياسية التي قام على أساسها المشروع الصهيوني.
ولإيضاح ذلك نتناول تلك الأهداف المتعلقة بامتلاك إسرائيل لأسلحة غير تقليدية على النحو التالي:
1- الهدف المتعلق بتحقيق عقيدتها الدينية: لا ينفصل السعي الإسرائيلي لامتلاك أسلحة غير تقليدية عن العقيدة الدينية اليهودية التي تقصي الآخر في جوهرها، وتنظر إليه نظرة عداء مباشرة وغير مباشرة، تعتمد فيها على طبيعة المغايرة بينهما في التكوين والمكانة التي ترسخها في عقول اليهود جميعًا، يضاف إلى ذلك جعل الآخر الذي يسكن الأرض التي وعدوا فيها عدوًا معتديًا متربصًا بهم لا تنتهي عداوته ما دام على قيد حياة، وبخاصة أن هذا الآخر يشكل كثافة عددية متزايدة تجعلهم يعيشون في قلق وخوف مستمر من المستقبل، ولهذا يأتي السعي لامتلاك سلاح الدمار الشامل تعبيرًا عن عقيدة الإفناء الدينية التي تمكن اليهود في المستقبل من إلحاق الدمار والهزيمة النهائية بالآخر لحماية الذات اليهودية، وقد قال "إيلداه شايب" الفيلسوف الصهيوني: «إنه لا مكان لأمتين في هذه المنطقة، ويجب على إحداهما أن تقضي على الآخر، وأن الحياة ستكتب للشعب اليهودي ولحركة تحرره القومي»([5])، وقال "يوفال نئمان" صانع القنبلة النووية الإسرائيلية: «نحن نحتاج إلى أداة فعالة وفتاكة لحسم الصراع بيننا وبين العرب الذين يشكلون أمة متخلفة تسيطر على أغنى الثروات وأوسعها وتتحكم في أفضل الطرق البحرية والجوية والبرية وتتمتع بمواقع استراتيجية هامة لا تضاهى»([6]). ولاشك أن الأسلحة النووية هي أحدث الأسلحة التي أنتجها العقلي البشري كأداة فتاكة وفعالة في الإبادة وحسم الصراع عن طريق الاستئصال أو التهديد بالاستئصال، وهذا يشكل جوهر العقيدة اليهودية الاستعمارية في "أرض الميعاد"، لاسيما من خلال التحضير لعصر "الخلاص الألفي" الذي لابد أن يسبقه ـوفق التصور الديني اليهودي ـ معركة "هرمجدون" التي يبيد فيها أبناء النور أبناء الظلام إبادة شاملة لا يمكن أن تكون إلا عن طريق الأسلحة النووية التي يجب أن يكون امتلاكها في المنطقة بشكل متطور ومتفوق محصور بهم. ووفق هذا التصور قامت إسرائيل في (1/6/1981) بتدمير المفاعل النووي العراقي ضمن عملية أطلق عليها اسم "عملية بابل" التي صرح "بيغن بعد عودة الطائرات من عملية التدمير مباشرة قائلًا: «إن إسرائيل سوف لن تتسامح مع أعدائها العرب، وإن أية دولة عربية تحاول صنع السلاح النووي ستتعرض للانتقام»([7]).
2- الهدف المتعلق بتحقيق أيديولوجيتها السياسية: إن امتلاك إسرائيل السلاح النووي يخدم سياستها من عدة نواحي أهمها:
- ردع العرب واستسلامهم للمخطط الإسرائيلي: إن القادة الصهيونيين الذين شرعوا في بناء مشروعهم الاستعماري في المنطقة كانوا على قناعة تامة منذ اللحظة الأولى أن مشروعهم لن يلقى القبول مهما امتد الزمن به، بسبب أن المحيط المعادي بهم يرتكز في عدائه على أسس دينية عقدية لا يمكن أن تتغير أو تتبدل أو تنتهي ما دام لليهود وجود استعماري على جزء من أرض المسلمين. وهذا المحيط المعادي الكبير في حالة تنامي مستمر من حيث العدد والعُدد، ولن يتوانى عن استئصال اليهود وتدمير مشروعهم متى قدر على ذلك.
فاليهود من خلال مشروعهم الاستعماري هم في حالة قلق وصراع مستمر مع القدرة والقوة المواجهة لهم في الطرف الآخر، ولم يجدوا غير السلاح النووي المتفوق كعامل حاسم في عملية الصراع على المدى البعيد، وبخاصة في حالة تفردهم به بشكل مطلق، أما على المدى القريب فإن هذا السلاح سيؤمن لإسرائيل فرصة إنجاح المبادرات السياسية من دون قتال، وإجبار بعض القيادات العربية عن طريق الإرهاب وإشاعة روح اليأس على الاستسلام لمخططاتها وإنجاح أهدافها السياسية التي تقوي وترسخ وجودها في المنطقة إلى حين من الزمن، منطلقين في ذلك من قناعتهم «أن العرب يهابون القوة»،([8]) وفق ما صرح به "بن جوريون"، وأن القوة النووية تضعهم أمام خيارين وفق قول أحد كتابهم: «إما الرضوخ والاستسلام للإرادة الإسرائيلية...وإما أن تصبح الأقطار العربية هدفًا لضربة نووية»([9]). وقد كتب في (29 حزيران عام 1975) في صحيفة "هاآرتس": إن « السلاح النووي هو أحد الوسائل التي تقضي على آمال العرب في انتصار حاسم على إسرائيل .. فإن عددًا كافيًا من القنابل النووية يمكنها أن تسبب في خسائر ضخمة في كل العواصم العربية، وتدمير السد العالي وبكمية إضافية يمكن الوصول إلى المدن المتوسطة والمواقع البترولية .. »([10]).وقد نجحت إسرائيل من خلال سياسة الردع النووي أن تردع العمق العربي، وبخاصة أنها أعطت المثال على قدرتها في الوصول إلى هذه الدول بطائرات إسرائيلية متطورة لها القدرة على حمل السلاح النووي من خلال قصفها تونس وقصفها المفاعل النووي العراقي([11]).
- رفع مكانتها السياسية بين دول العالم وتعزيز وجودها في المنطقة: إن امتلاك الأسلحة غير التقليدية لاسيما الأسلحة النووية والذرية دليل واضح على مدى قوة الدولة في ميزان العلاقات الدولية. وهذا مما يرفع مكانتها بين الدول القوية، ويكسبها احترامًا من قبلهم، ويزرع الرعب والإحباط واليأس في الطرف المعادي ويجبره على قبول الواقع.
فاليهود على دراية تامة بأهمية امتلاك القوة على وجودهم المادي والمعنوي ونجاح مخططاتهم الدينية الاستعمارية. لذلك هم حريصون على امتلاك الأسلحة غير التقليدية على اعتبارها أحدث الأسلحة التي تبرهن مدى قوتهم، وأن هذه القوة «لقد كانت ولا تزال وستبقى، لها أعظم الأثر على المكانة السياسية لأية دولة في العالم، فالقوي محترم دائمًا، والضعيف مهان دائمًا، وكل زعم يخالف ذلك خيال وهراء»([12]).
- الدعاية لإسرائيل: إن امتلاك إسرائيل للأسلحة غير التقليدية يعطي صورة على مدى تقدمها العلمي والصناعي، وهذا مما يشجع الكثير من الدول الفقيرة على طلب مساعدتها والتعاون معها في تأسيس علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية، كذلك سيزيد إعجاب الدول القوية بها وتكسب ثقتهم في قدرتها على تقديم الخدمات لهم مقابل وقوفهم إلى جانبها ودعمهم لها في جميع القضايا السياسية لاسيما في المحافل الدولية، ويبعد عنها إمكانية أي ضغط عالمي يجبرها على التخلي عن سلاحها النووي([13]).
3- الهدف المتعلق بإنجاح عقيدتها العسكرية: لقد اعتمدت الصهيونية في تنفيذ مشروعها الاستعماري على القوة العسكرية المتفوقة لاسيما على الأسلحة التقليدية، لكنها لم تأل جهدًا في امتلاك الأسلحة غير التقليدية كعامل مهم في إنجاح عقيدتها العسكرية، وذلك من عدو نواحي منها:
- رفع المعنويات: إن من أهم عوامل نجاح العقيدة العسكرية في أي أمة أو جماعة أو دولة رفع معنويات القوات المسلحة بخاصة والشعب بعامة، وتحطيم معنويات الطرف الآخر المعادي لاسيما قواته بخاصة وشعبه بعامة.
«والمعنويات العالية عنصر ضروري للجيوش وللشعوب، وتلك المعنويات العالية عامل حاسم من عوامل الانتصار في الحروب، لا تقل شأنًا عن التدريب الجيد والتسليح الممتاز والتنظيم الدقيق والتجهيز المتكامل...
ووجود السلاح الذري لدى إسرائيل هو تفوق ساحق على الأسلحة التقليدية، لأن قوة السلاح الذري وضخامة تأثيره جعل الأسلحة الأخرى في قوتها وتأثيرها بالنسبة إلى السلاح الذري كلعب الأطفال. فإذا أنتجت إسرائيل السلاح الذري، فاقرأ على معنويات العرب والمسلمين السلام»([14]).وقد قال "شمعون بيريز" في هذا المجال: «إذا حصلت إسرائيل على السلاح الذري. هنا سيقتنع العرب عن طريق التفوق الإسرائيلي العلمي أنه لا يمكن تدمير إسرائيل». ولكن مما لا شك فيه أن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية، وهذا ساهم بشكل غير مباشر في تعزيز الشعور بالاستقرار لدى الإسرائيليين، ودفع أعداد متزايدة من اليهود للهجرة إليها. وفي الجانب المقابل كرس الضعف في القيادة العربية وجيوشها وأخل بشكل كبير في معنوياتها في الاستعداد للمواجهة العسكرية، أو التصدي بشكل جدي للعدوان الإسرائيلي الاستفزازي المستمر.
- الضمانة على التوسع وعدم الانسحاب: قال "بن جوريون" في مقدمة الكتاب السنوي لإسرائيل الذي صدر سنة (1950):«إن إسرائيل لا يمكن أن توافق على إعادة فلسطين إلى أهلها العرب، فالمشكلة الفلسطينية لا يمكن أن تحل إلا بالحرب، والحرب هذه ستقرر مصير إسرائيل، فإما زوالها وإما بقاؤها. ولكي ننتصر في الحرب يجب أن نتفوق على البلاد العربية تفوقًا عسكريًا ساحقًا» ([15]). والتفوق الساحق لا يمكن أن يتم اليوم عن طريق امتلاك الأسلحة غير التقليدية، بسبب سهولة التنافس في امتلاكها عن طريق الشراء أولًا، والقدرة على تصنع أو تعديل البعض منها ثانيًا. بخلاف الأسلحة غير التقليدية لاسيما الأسلحة النووية والذرية منها، حيث يصعب التنافس في امتلاكها عن طريق الشراء بسبب الحظر الدولي الذي تفرضه الدول الكبرى الاستعمارية على تبادل المعلومات في هذا المجال وتمنع بيع أسلحة جاهزة منه..لذا لابد لامتلاك أسلحة نووية من بناء مفاعل متخصصة في هذا المجال مع وجود قدرات مادية ضخمة ووجود خبرات علمية متخصصة ومتفوقة في هذا المجال. وهذا ما سعت إليه إسرائيل في وقت مبكر من وجودها على أرض فلسطين، وبخاصة أن القيادة الصهيونية قد وجدت أن الأسلحة النووية هي الوحيدة القادرة على حماية التوسع الصهيوني وترسيخ وجوده وتشجيع اليهود في الهجرة إلى فلسطين على اعتبارها جزء من المشروع الصهيوني الكبير الذي يمتد جغرافيًا من الفرات إلى النيل.
كما أرادت إسرائيل عن طريق امتلاكها الأسلحة النووية من الناحية السياسية والعسكرية أن تحمي كيانها السياسي الذي أقامته قسرًا في محيط عربي معاد لا يمكن أن يجعلها أن تطمئن من جانبه مهما كانت الظروف التي يعاني منها. ويبقى السلاح النووي الضمانة الوحيدة لحماية الدولة اليهودية من محيط عربي كبير يمتد عمقه إلى المسلمين الذين يعتقدون وفق التصور الإسلامي أن اليهود قبل أن يعتدوا على المسلمين في فلسطين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فكيف هم بعد ذلك؟!.
4- الهدف المتعلق بالاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية: المعلوم أن المنظار الأمني يتحكم بكل الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية التي اعتمدت على مبدأ الهجوم، ومبدأ الحرب الوقائية، والحفاظ على التفوق العسكري، وذلك استنادًا إلى ركيزتين: الاعتماد على الذات والهيمنة في المنطقة. ويقع السلاح النووي في قلب هذه المعادلة التي تربط بين السلام والقوة.
كما ويلاحظ أن استراتيجية إسرائيل النووية قد استندت على مبادئ أربعة غير معلنة هي: سياسة الغموض النووي، وتقوم على الصمت والتضليل هربًا من الضغوط بدعوى أن سياسة الغموض تتمتع بمزايا عديدة، ولا تنطوي على الأخطاء الكثيرة، وعلى الكلفة التي تصاحب تحويل الأسلحة النووية إلى أسلحة علنية، ومبدأ الاحتكار النووي الإقليمي وأساسه عدم السماح لأي دولة عربية في الحصول عليه. ومبدأ التكامل، أي أخذه على أنه امتداد للأسلحة السياسية والدبلوماسية لتطبيق الاستراتيجية الإسرائيلية، والمبدأ الرابع والأخير هو الاستعداد لأسوأ الحالات والاحتمالات وجعله الخيار الأخير في الحرب. ([16])
وقد تمثلت أهداف الاستراتيجية الإسرائيلية العسكرية التي تطورت منذ منتصف الستينات من اعتمادها على الرادع التقليدي إلى اعتمادها على الرادع غير التقليدي النووي، مع الانفراد بهذا الرادع بما يحقق لها حرية الحركة من دون أي تهديد نووي من أي دولة عربية، في هدفين اثنين:
الهدف الأول: استعداد الخيار النووي أو ما يسمى "الردع بالشك" وهي الاستراتيجية التي تتبعها إسرائيل حاليًا حيث تحيط نشاطها النووي بستار من السرية والتصريحات والتصرفات المتضاربة على المستويين الرسمي وغير الرسمي يفرض تكوين وتقوية الشكوك لدى العرب واقتناعهم بقدرة إسرائيل على الردع النووي وبالتالي إلى عدم قدرتهم على مجابهتها والرضوخ للأمر الواقع.
الهدف الثاني: الردع النووي العلني: ويأتي من خلال إعلان إسرائيل على الملأ امتلاكها الأسلحة النوويةـ وهذا أصبح معلومًا لشعوب المنطقة والعالم بأسره ـ وفي هذا الإطار يمكن لإسرائيل استخدام أسلوبين: الأسلوب الأول هو الردع بالتهديد باستخدام الأسلحة النووية..وتلجأ إلى هذا الأسلوب عند توقعها عملية عسكرية تهدد أمنها، أو عند تأكدها من فشل استراتيجيتها الردع بالشك.
وفي كل الأحوال إن السلاح النووي الإسرائيلي لم يخرج عن كونه سلاحًا ردعيًا ضخمًا عزز مبدأ الردع في الاستراتيجية الإسرائيلية العسكرية بشكل فعال، مع العلم أنه لا يمكن استخدامه إلا كسلاح الخيار الأخير في الحرب.
فالسلاح النووي الإسرائيلي موجود في واقع المشروع الصهيوني كسلاح يعبر عن مدى ارتكازه على القوة المادية والمعنوية المتفوقة التي يحرص القادة اليهود على إبرازها في بنيتهم الداخلية والخارجية في عملية المواجهة المستمرة حتى يتحقق لهم عصر الخلاص!!. وإلى حين مجيء ذلك العصر الخلاصي الذي ينتظرونه فهم في حالة قلق وخوف من المستقبل من امتلاك الآخر قوة مماثلة أو متفوقة تهدد قوتهم الغير مستقرة، لاسيما القوة النووية التي بات مجرد امتلاكها أو السعي لامتلاكها لأية دولة في المنطقة باستثناء "إسرائيل" يشكل خللًا وتهديدًا لمبدأ الردع النووي الذي حرصت "إسرائيل" على التفرد فيه والاحتماء وراءه ضمن هاجس مستمر في منطقة مضطربة لن تعرف الاستقرار، ما دام هناك جسم غريب متمثلًا بوجود "إسرائيل" فيها.
وأختم هذا المقال عن حالة هاجس الخوف الذي تعاني منه "إٍسرائيل" من إمكانية امتلاك غيرها سلاحًا نوويًا، بما عبر عنه "أهارون زئيفي" رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" في محاضرة ألقاها في مؤتمر حول "وضع الأمة" الذي نظمه "مركز يافا للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب" عند حديثه عن "برنامج إيران النووي" الذي يشكل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل ومن ثم للولايات المتحدة الأمريكية، وأنهما بزعمه القادرتين على حل هذه المشكلة بالنسبة لهما بقوله:«.. إن الخطورة الكامنة في استكمال برنامج إيران النووي، المدعوم بنظام محافظ ومتطرف أكثر من الماضي- والذي على ما يبدو لن ينجح المجتمع الدولي في إيقافه- تستوجب من إسرائيل الاستعداد استخبارياً وأمنياً وعسكرياً وسياسياً بشكل دائم ودؤوب، من أجل مواجهة فعّالة حيال هذا التهديد.
بعد عدّة لقاءات عقدتها مع مسؤولين كبار في أوروبا في مقدوري أن ألخّص زعمين وردا على ألسنتهم في سياق القضية الإيرانية: الزعم الأول يقول- من غير الواضح لنا، سيدي رئيس"أمان" لماذا ترعبنا بالتهديد النووي لأوروبا. فنحن نعيش تحت مظلة تهديد كهذا منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا الزعم الآخر فيقول- من الواضح في خاتمة المطاف أن حلّ المشكلة ستقومون به إما أنتم أو الأميركيين، إذن دعنا نترك هذا الموضوع جانبًا»!!.
[1]) ) إن المقصود بالأسلحة غير التقليدية هي الأسلحة النووية بشكل خاص لأنها تعتبر أقوى وسائط تدمير القوات والأهداف الحيوية في البلاد كالمدن الكبرى والمصانع وأماكن الإنتاج الحربي والمؤسسات الاقتصادية وتستخدم بواسطة الصواريخ والطائرات والمدفعية كما يمكن أن تستخدم بواسطة ألغام نووية. ولم يعد خافيًا على أحد أن إسرائيل الوحيدة التي تمتلك قوة نووية بين دول المنطقة، وإن اختلف في حجم هذه القوة ما بين مقلل من شأن استخدامها أو مبالغ فيها.
كما إن الأسلحة غير التقليدية تشمل الأسلحة الكيماوية (الغازات السامة الحربية)، والأسلحة البيولوجية والجرثومية. (انظر: هيثم الكيلاني: المذهب العسكري الإسرائيلي، منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1969. ص 186-190).
