الصِّراعُ
والحربُ في السُّلوكِ الإنسانيِّ
جبر
الهلول*
إنَّ نَظْرةً خاطفةً إلى التّاريخِ البشريِّ، أليستْ كافيةً
لحسمِ موضوعِ المحاضرةِ: "الصّراعُ والحربُ في السّلوك الإنسانيِّ"؟!.
ألم يفتخرِ البشرُ بسجلِّ انتصاراتِهم في حروبهم التي خلّدوها
بكافة الوسائل على الورق والحجر، تأريخًا لحروبهم ولم يُؤَرِّخوا لرخائِهم في سلْمِهم،
وهم يعلمونَ بطبيعتهم البشريّة، أنَّ الأمّةَ التي تصلُ إلى مرحلةِ التَّنعمِ بالرّخاءِ
كان ذلك مُؤْذِنًا لها بزوال مجْدها وفقَ قانونِ دورةِ الأممِ أو الدّولِ أو
الحضارةِ عند ابنِ خلدونِ ومالك بن نبي وأرلوند توينبي وويل ديورانت وغيرهم؟!.
إنّ نَظْرتَنا العاجلة إلى التّاريخِ البشريِّ تدفعُنا
إلى التّساؤلِ مرّةً أخرى: هلْ نحنُ صقورٌ مُحِبُّونَ للصّراعِ والحربِ، أمْ حمائمَ
سلامٍ، أُجْبِرْنا على استخدامِ القوّةِ؟. وأيُّ السّلوكينِ كان جُزْءًا أساسيًّا
من طبيعتِنا البشريّةِ([1])؟.
ولكي أجيبَ عن ذلك سأناقشُ هذا الموضوع من ثلاثةِ محاورٍ
(باختصار):
أولاً: طبيعتُنا البشريّة تاريخيًّا.
ثانيًا: انقسامُ
الباحثينَ حولَ الأصلِ في طبيعتِنا البشريّةِ الحربُ أمِ السلمُ؟.
ثالثًا: الحربُ والسّلمُ
في النَّصِ الدِّيني.
المحور الأول: طبيعتُنا البشريّة
تاريخيًّا:
إنَّ الصّراعَ والحربَ الإنسانيّةِ
قديمةٌ قِدمَ تاريخِ الإنسانِ نفسهِ، تحْدثُ بين الفينةِ والفينةِ لأسبابٍ
اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ وقوميّةٍ وعقديّةٍ، وقد تكرَّرتْ كثيرًا في
المُجتمعاتِ البشريّةِ منذُ إنْ قتلَ قابيلَ أخاهُ هابيلَ حتّى اليومَ، إلى درجةٍ
يمكنُ معها القولُ استناداً إلى مُعطياتٍ تاريخيّةٍ أكيدةٍ: أنَّه خلالَ خمسةِ
آلافِ سنةٍ مِنَ التّاريخِ المكتوبِ للبشريّةِ (أي منذ اختراع الكتابة حوالي 3000
ق.م وحتى اليوم) لم يكنْ هناك أكثرَ من خمسمئةِ سنةٍ كفتراتِ سلمٍ لم تحدثْ فيها
حروبٌ على المستوى العالميِّ أو المحليِّ»([2]).
إذًا الحربُ كسلوكٍ إنسانيٍّ وُجِدتْ مع
بدايةِ وجودِ الإنسانِ على الأرضِ، وهي قديمةٌ قِدمَ هذا الوجودِ، ومستمرّةٌ
باستمرارهِ. وعن ذلك قال ابنُ خلدون: «إنَّ الحربَ وأنواعَ المُقاتلةِ لم تزلْ
واقعةً في الخليقةِ منذ براها اللهُ، وأصلُها إرادةُ انتقامِ بعضِ البشرِ من بعضِ،
ويتعصَّبُ لكلٍّ منها أهلُ عصبيّته. فإذا تذامروا لذلك، وتوافقتْ الطائفتانِ،
إحداهُما تطْلبُ الانتقامَ والأخرى تُدافعُ، كانت الحربُ. وهو أمْرٌ طبيعيٌّ في
البشرِ لا تخْلو منه أمَّةٌ ولا جيلٌ...» ([3]).
فإذا كان الصِّراعُ والحربُ سلوكًا
إنسانيًّا قديمًا وملازمًا لوجودِه، كذلك كان هناك التعاونُ والسّلامُ في هذا
السّلوكِ سِمةً ظاهرةً بين حينٍ وآخرَ، حيثُ يَخِفُّ الصّراعُ، وتتوقّفُ الحربُ،
ويَنْعمُ هذا الإنسانُ بفتراتٍ من السِّلمِ، يمكنُ أنْ تُوْصَفَ بأنَّها استراحةُ
مُحارِبٍ.
فالسّمةُ الظَّاهرةُ في طبيعتِنا
البشريّةِ هي: الصّراعُ والحربُ، أمّا السّلمُ الذي لا يتحقّقُ إلا بعدَ فتراتِ
حربٍ لا يُوْقِفُ عَمليَّةَ الصّراعِ إلّا منْ أجلِ التَّحضيرِ إلى حربٍ أخرى.
إنَّ المُتَتبِّعَ لتاريخِ الإنسانِ
اجتماعيًّا يلاحظُ أنَّ سلوكَهُ كان يزدادُ شراسةً ووحشيَّةً كلَّما امتلكَ أسلحةً
أكثرَ تطوّرًا وفتكًا بأخيهِ الإنسانِ بغضِّ النّظرِ عن مُسوِّغاتِه لهذا السّلوكِ
الذي ليس بمُسْتغربٍ منه، بلْ إنَّ المُستغربَ كان تقصيرُهُ في إعدادِه لذلك
وخُروجُهُ عن هذا الأصلِ إلى السّلْمِ في بعضِ المحطِّاتِ التّاريخيّةِ، وهذا
السّلمُ كظاهرةٍ اجتماعيّةٍ جديدةٍ هو الذي يحتاجُ إلى دراسةٍ وليس الصّراعُ
والحربُ الذي هو من طبيعتهِ البشريّةِ!.
فالحربُ سلوكٌ اجتماعيٌّ أصيلٌ في سلوكِ
الإنسانِ وليس هو ظاهرةً اجتماعيّةً كالتَّعاونِ والسَّلامِ.
المحور الثاني: انقسامُ الباحثينَ حولَ
الأصلِ في طبيعتِنا البشريّةِ الحربُ أمِ السلمُ:
إنَّ حالَ السُّلوكِ الإنسانيِّ البارزُ
ينْحصِرُ بين نقيضينِ مُتداخلينِ: الصّراعُ والحربُ من جهةٍ، والتّعاونُ والسلمُ
من جهةٍ أخرى. وهذا ما دفعَ الباحثينَ والمفكرينَ للسؤالِ عن أيِّهما أصلٌ في
سلوكِه وأيِّهما استثناءٌ؟ وعند محاولةِ الإجابةِ على هذا السؤالِ انقسموا إلى
فريقينِ: فريقٌ رأى أنَّ الإنسانَ اجتماعيٌّ يُحبُّ التعاونَ والسلامَ بطبعِه،
وذلك وفقًا لنظريّةِ التَّضامنِ الاجتماعيِّ (ليون ديجي 1859- 1928 )، وفريقٌ رأى عكسَ ذلك تمامًا
حيثُ "الإنسانُ ذئبٌ لأخيه الإنسان" (توماس هوبز1588-1679)، ولكنّه
يُكرهُ على الخروجِ من هذا الأصلِ التّكوينيِّ إلى الاستثناءِ لأسبابٍ عديدةٍ من
أجلِ غريزةِ البقاءِ وفقًا لنظريّةِ
العقدِ الاجتماعيِّ.
فنظريّةُ "هوبز" أنَّ كلَّ
فردٍ في صراعٍ مع الآخرينِ من أجلِ استعمالِ حقّهِ([4]).
ومن هنا تأتي الحروبُ، وهذا يعني أنَّ كلَّ فردٍ هو في حالةِ صراعٍ مُستمرّةٍ مع
أفرادٍ آخرينَ تتحولُ إلى حربٍ عند الاختلالِ في ميزانِ القوّةِ لصالحِ أحدِ
الطرفينِ. وعندما يعودُ التَّوزانُ تتوقفُ الحربُ ويبدأُ السّلمُ الذي هو الحلُّ
لمشكلةِ التَّطاحنِ الإفْنائيِّ لكِلا الطَّرفينِ في حالةِ توازنٍ القوّةِ.
"فهوبز" رأى أنَّ الحالةَ
الطبيعيةَ الأولى للمجتمعاتِ كما الأفرادِ "هي حربُ الجميعِ على الجميعِ، حيث
إنَّ كلَّ واحدٍ مَسْكونٌ بهاجسِ البقاءِ والخشيةِ على وجودهِ من تربّصِ الآخرينَ،
فيلجأُ إلى القوّةِ والعنفِ من أجلِ أنْ يردعَهم، وحينها تكونُ الفوضى. حيث لا صوتَ
حينها يعلو على صوتِ غريزةِ البقاءِ. مما يعني حينها أنَّ لكلِّ واحدٍ أنْ يرفعَ
صوتَه عاليًا مُخبرًا عن حقّهِ الطبيعيِّ في إرضاءِ غرائزهِ ورغباتِهِ مهما كانتْ
تقومُ على حسابِ الآخرينَ([5]).
فغريزةُ البقاءِ هذه تجعلُ الانسانَ
يبحثُ عن الوسائل التي تكفلُ له الأمنَ الوجوديِّ، وفي سبيلِ ذلك يلجأُ إلى وسائلَ
القوّةِ لأنَّ الانسانَ لا يستطيعُ أنَّ يُحققَّ لنفسهِ الأمنَ إلَّا أذا كانَ قويًّا،
ومنْ ثُمَّ توفيرِ الطُّمأنينةِ لنفسِهِ من دونِ أنْ يُعيرَ غَيْرَهُ أَيَّ اهتمامٍ
إلَّا إذا وجدَ أنَّ بقاءَهم وطُمأنينَتَهم ضروريَّةٌ لبقائِه ولطُمأنينتِهِ([6]).
وهكذا فالنّاسُ في حالتِهم الطّبيعيّةِ
الأصْليِّةِ لا يذوقونَ للسّلمِ طَعْمًا، بلْ إنَّهم يعيشونَ في حالةِ خوفٍ مُستمرٍّ
وجَزعٍ دائمٍ، ولم يكنْ في هذه الحالةِ الأوَّليِّةِ أَيّ تمييزٍ بين عدلٍ أو ظلمٍ،
بلْ كانتِ القوّةُ هي مِعيارَ الحقِّ، فالنّصرُ دائمًا من نصيبِ الأقْوى. وهذا هو
الأصْلُ في منهجيَّةِ الحياةِ حيث لا مكانَ للضّعفاءِ فيها ولا دورَ لهم إلَّا
لخدمةِ الأقوياءِ.
وفي سياقِ الأصلِ في السّلوكِ الإنسانيِّ وِفْقَ
الطّبيعةِ البشريّةِ قالَ الرئيسُ الأمريكيُّ الأسبقِ "أوباما" أثناءَ
زيارتِه إلى هيروشيما: «إنَّ الحربَ هي نتاجُ غريزةٍ إنسانيّةٍ وهيَ حبُّ السّيطرةِ
والغزوِ أو الاحتلالِ التي شَكَّلتْ تاريخَ البشريّةِ، وسبَّبتْ كثيرًا من الحروبِ
بين الشّعوبِ والأُممِ على مرِّ التّاريخِ، بِدْءًا بالقبائلِ البدائيّةِ. وأضافَ
أنَّ البشريَّةَ يُمكنُ أنْ تختارَ السّلمَ ليكونَ مَصيرَها، فنحنُ لسْنا مجبورينَ
على تِكرارِ أخطاءِ الماضي» ([7]). نلاحظ من كلام أوباما أن الحرب نتاج غريزة بشرية ويكمن
أن تختار السلم!!.
فالحربُ غريزةٌ
مُتأصِّلةٌ في السّلوكِ الإنسانيِّ والسّلمُ هو اختيارٌ مُمْكنٌ إذا توفَّرتْ
الإراداتُ التي يستحيلُ عليها أنْ تصمدَ وتقفَ في وجهِ غريزةِ البقاءِ التي تقومُ
على حسابِ الإنسانِ نفسهِ.
إنَّ هذه
الإشكاليَّةَ دفعتْ بعضَ المؤسّساتِ البحثيّةِ (مؤسسةُ ستراتفور، المختصةُ في
التحليلِ الجيوسياسي) للسّؤالِ: «هلْ النُّزوع إلى الحربِ فِعْلًا طبيعةٌ بشريّةٌ
ضِمنَ جيناتِ الإنسانِ أمْ أنَّها مكتسبةٌ؟»([8]).
وأجابتْ هذه
المؤسّسةُ عن ذلك بالقولِ: «إنَّ هناك عددًا كبيرًا من النَّظرياتِ تَطرحُ تفسيراتٍ
مُختلفةٍ لدوافعِ الحروبِ على خلفيّاتٍ، منها اقتصاديةٍ ومنها سوسيولوجيّةٍ أو
فلسفيّةٍ أو إنثروبولوجيّةٍ. فلو كانتْ في الجيناتِ فمنَ الطّبيعيِّ أنْ نفترضَ أنّها
سوفَ تبقى معنا إلى الأبدِ، وعلينا الاستعدادُ للمعاركِ. أما إذا كانتْ شيئًا مُكتسبًا
تَعلَّمَهُ الإنسانُ في مسيرتهِ، فحينَها يمكنُ النَّظر في التَّخلُّصِ منها
بتغييرٍ ثقافيٍّ يَنْحو إلى السّلامِ»([9]).
هذه المؤسّسةُ لم تحسمِ الإجابةَ من خلالِ الدّراساتِ
التي قامتْ بها حولَ سؤالها السّابقِ، حيثُ أظهرتْ دراساتُها عن هذا السّلوكِ بأنَّ
نِصْفَ ظاهرةِ العُنفِ تقريبًا يمكنُ تفسيرُها بالطبيعةِ البشريّةِ، والنِّصفُ
الآخرَ يعودُ إلى الظروفِ التي يعيشُها الإنسانُ. أيْ أنَّ تعديلَ البيئةِ
والثقافةِ أو تغييرَهُما يُمكنُ أنْ يُؤثّرَ في ظاهرةِ العنفِ، ولكنَّها لا تُحدِّدُهُ
بشكلٍ كاملٍ أو تُنهيه([10]).
ولكن التّاريخُ والواقعُ وما سيكونُ في المستقبلِ قد
حسمَ الجوابَ لصالحِ أنَّ جيناتِ الحربِ طبيعةٌ بشريّةٌ وإنْ خالفتْ نتيجةُ
الدّراساتِ التي أُجْريتِ ووقفتْ في المُنتصفِ، فإنَّ الحربَ مُستمرّةٌ معنا إلى
الأبدِ ويجبُ علينا الاستعدادَ دائمًا لها!.
المحور الثالث:
الحربُ والسّلمُ في النَّصِ الدِّيني:
إنَّ ما ذهبتُ إليهِ حولَ الصّراعِ
والحربِ كأصلٍ في السُّلوكِ الإنسانيِّ، وأنَّ السّلامَ والمُسالمةَ استثناءٌ
يدفعُني للتساؤلِ هل هذا الاستنتاجُ يتناقضُ مع التَّصورِ الدّينيِّ الإسلاميِّ
وكذلك في الأديان السماوية الأخرى حولَ طبيعةِ تكوينِ الإنسانِ وسلوكِهِ في هذه
الحياةِ الدّنيا؟
ولكي أُجيبَ على ذلك أستعرضُ بعضَ
الآياتِ القرآنيةِ الكريمةِ في هذا السِّياقِ فقوله تعالى: ]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ[ ([11]).
إنَّ طبيعةَ تكوينِ الإنسانِ وفقَ هذه
الآيةِ هي الإفسادُ وسفكُ الدّماءِ وأوضحُ صُوَرِها تتجلّى في الحربِ التي بِغضِّ
النّظرِ إلى مشروعيَّتِها ما هي إلّا فسادًا وسفكًا للدماء، وبخاصةٍ هي تعبيرٌ
لأعنفِ وأشرسِ وأعلى مراحلِ الصراعِ التي يمكنُ أنْ يصلَ إليها الإنسانُ في
علاقتهِ مع الإنسانِ الآخر من أجلِ البقاءِ.
وهذا السّلوكُ لا يتهذّبُ ويخرجُ عن أصلهِ الذي
جُبِلَ عليه إلا بمقدارِ التزامهِ بشريعةٍ سماويّةٍ أو قانونٍ وضعيٍّ ناتجٍ عن
عقدٍ اجتماعيٍّ أو رضوخهِ بشكلٍ مُؤقّتٍ لموازينِ القوّةِ الماديّةِ الرادعةِ له
التي سُرعانَ ما يخرجُ عنها إذا ما امتلكَ القوّةَ المُتفوّقةَ حيثُ سيعودُ
مباشرةً ومن دون تردّدٍ إلى أصلهِ التكوينيِّ تجاهَ الإنسانِ الآخر تحت ذرائعيّةٍ
تُشرْعِنُ أو تُبيحُ له هذا السّلوك لاسيّما في إطارِ العقلِ الجمعيِّ!.
وإذا كانتْ طبيعةُ تكوينِ الإنسانَ هيَ
الفسادُ والإفسادُ وسفكُ الدماءِ في الأصلِ فإنّها تقْتضي المُواجهةُ بالمثلِ
لتحقيقِ التّوازنِ والعدلِ فقالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ]وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ[ ([12]).
قد
بيّنتْ هذه الآيةُ ضرورةَ الصراعِ وحتميّة الانْخراطِ فيه حتى لا تَفْسُدَ الأرضُ
كلّها وحتى يُحفَظَ الحقُّ والدّينُ وأهلُهُ. ([13])
يقولُ
اللهُ عزَّ وجلَّ: ]وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ ([14])،
وهذه جاءت بعد ذكر الآتي قبلها: ]أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا
أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ[
([15]). فالنّاظرُ
إلى معنى وحكمةِ ودقّةِ الترتيبِ والتوصيفِ القرآنيِّ يستدلُّ إلى حتميّةِ الصراعِ
في هذا الكونِ كما تقدم([16]).
وفي
سياقِ الموضوعِ نفسِهِ عن ابن عمر رضى الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم
قال: «بُعِثْتُ بين يَدَيِ السَّاعة بالسَّيف، حتى يُعبَدَ اللهُ وحدَه لا شريك
له، وجُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِلَ الذَّلُّ والصَّغار على مَنْ خالَف
أمري، ومَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم»([17]).
وفي
حديثٍ آخرِ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أيُّها النَّاسُ، لا
تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ
فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ». ([18])
وإذا
انتقلنا إلى المسيحية نقرأ ما نُسِبَ إلى عيسى عليه السلام: «"طُوبَى
لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاء اللهِ يُدْعَوْنَ».([19]).
فإنّهُ يشيرُ إلى أنَّ السلامَ هو انتقالٌ من حالةِ الطبيعةِ البشريّةِ الحربُ إلى
الحالةِ الصناعيّةِ وهي السلامُ لاسيما وقد أكدَّ على ذلك من خلالِ قولهِ أيضا في
إنجيلِ متَّى: «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ.
مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا».([20])
وبالانتقالِ
إلى التّراثِ الدّينيِّ اليهوديِّ نَجِدُهُ حافِلًا بالنّصوصِ التي تُؤَكِّدُ على
أنَّ الصِّراعَ والحربَ جُزءٌ أصيلٌ مِنَ السّلوكِ اليهوديِّ وأنَّ السّلامَ لهُ
مفهومٌ خاصٌ بهِ لا يُمكنُ أنْ يتحقَّقَ إلّا لهمْ في عصرِ الخلاصِ الألفيِّ.
وبالتّالي كما جاءَ في كتبِهم: «مَلْعُونٌ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الرَّبِّ
بِرِخَاءٍ، وَمَلْعُونٌ مَنْ يَمْنَعُ سَيْفَهُ عَنِ الدَّمِ».([21])
ولقداسةِ
السّيفِ ورمزيَّتهِ في منهجيَّةِ الحياةِ اليهوديّةِ فقدْ عارضَ أحدُ كبارِ أعضاءِ
الحركةِ الصُّهيونيّةِ " فلاديمير
جابوتنسكي""([22])
مستشارَ جمعيّة الطّلابِ اليهودِ في (فيينا) الذي عزمَ على إلغاءِ جميعِ المظاهرِ
الاحتفاليِّةِ الموروثةِ عن المُؤسَّساتِ الألمانيّةِ، قائِلاً: «تستطيعُ أنْ
تُلْغيَ كلَّ شيءٍ، القّبعاتِ، والأحزمةَ والألوانَ، والإفراطَ في الشّربِ،
والأغاني، أمّا السّيفَ فلا يمكنْ إلغاؤهُ. عليكمْ أنْ تحتفظوا بالسّيفِ لأنَّ
الاقتتالَ بالسّيفِ ليس ابتكارًا ألمانيًّا بلْ إنَّه ملكٌ لأجدادنا الأوائلِ.
إنَّ التّوراةَ والسّيفَ أُنْزلا علينا من السّماءِ»([23]).
لذلك يجبُ على اليهودِ التّمسّكَ بالتّوراةِ لشرعنةِ منهجيَّةِ الصّراعِ والعنفِ
والحربِ، وكذلك التّمسّكَ بالسّيفِ لرمزيَّتهِ الماديّةِ في ميدانِ الحربِ
اليهوديّةِ التّي تقومُ عليهما ولا يستطيعونَ الاستغناءِ عنهما. وبخاصةٍ بعدما
أصبحَ لهذه الحربَ فلسفةٌ قائمةٌ على قواعد ومُسلّماتِ الفكرِ الدّينيِّ
اليهوديِّ، كما عبَّر عن ذلك "مناحم بيغن" بقولِه: «عندما قالِ
"ديكارت"
قوْلَتَهُ الشّهيرةِ: "أنا أُفكّرُ إذن أنا موجودٌ"، قالَها حَقًا
ونطقَها صُدقاً.. ولكنْ هناك فتراتٌ في حياةِ الشّعوبِ، لا يكونُ فيها الفكرُ
وحدهُ شاهدًا أو دليلًا على وجودِ هذه الشّعوبِ.. ذلك أنَّ الشّعبَ قد يُفكّرُ..
ولكن أبناءَه قد يتحولونَ بفكرهِم رغمًا عنهم، إلى قطيعٍ من الرّقيقِ.. وفي حياةِ
الشُّعوبِ فترةٌ أخرى هامّةٌ، كلُّ ما فيها ينطقُ ويقولُ: "بأنَّ احترامَك
ككائنٍ بشريٍّ يَكْمنُ في مُقاومتِكَ "للشّرِّ والعُدوانِ".. لهذا نحنُ
نحاربُ.. ولهذا أيضًا نحنُ موجودونَ "نحنُ نحاربُ.. إذن نحنُ
موجودونَ".. وإذا لم نحاربْ سوف نَفْنى.. الحربُ هيَ الطَّريقُ الوحيدُ
للخلاصِ.. والحربُ أيضًا هي الطّريقُ الوحيدُ الذي يجعلُنا – نحنُ الإسرائيليينَ –
لا نتحوَّلَ إلى قطيعٍ مِنَ الرّقيقِ.. وإنَّما إلى أسيادٍ ومُسيطرينَ!!» ([24]).
فمِنْ
خلالِ ما قالَه: "جابوتنسكي"
و"بيغن"
نرى أنَّ الحربَ تُشكّلُ عامِلَ بقاءٍ ومنهجيّةَ حياةٍ بالنسبةِ لليهودِ
وتُمكّنُهمْ منْ أنْ يُسيطروا على العالمِ ويُصبِحوا أسيادًا فيه. وبالمقابلِ
يُصْبحُ السّلامُ بمفهومِهِ العام عامِلَ فناءٍ لهمْ ويُحَوِّلَهمْ إلى قطيعٍ مِنَ
الرَّقيقِ. ولا شكَّ عن طريقِ تلكَ المنهجيَّةِ استطاعوا أنْ يُحقِّقوا جُزءًا
كبيرًا من مشروعِهِمِ الاستعماريِّ في فلسطينِ.
فعن
طريقِ الحربِ قامتْ غالبيةُ الدّولِ والحضاراتِ، وعن طريقِها أيضًا زالتْ دولٌ
وحضاراتٌ وبالتالي تبْقى الحربُ بمعناها التّقليديُّ هي أهمُّ أدواتِ الصّراعِ وما
يُذْكرُ غيرَ ذلك من مَظاهرِ الصّراعِ أو تخصيصِ الحربِ بالمجالات الأخرى كالحربِ
الفكريّةِ والاقتصاديّةِ وغيرُها هو الفرعُ وليسَ الأصلُ. فالأصلُ في الصّراعِ وعُمْدتُهُ
هي الحربُ العسكريّةِ والباقي تَبَعًا لها ولنتائجِها ولذا يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: ]كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[
([25]).
وأخيرًا وبناءً على ما سبقَ يُمكنُني القولَ: إنَّ الصّراعَ والحربَ هما
سلوكٌ إنسانيٌّ ينسجمُ مع الطّبيعةِ البشريِّةِ تاريخيًّا وعِلميًّا ودينيًّا،
وأنَّ السّلامَ هو استثناءٌ من هذا السّلوكِ وإنَّ الدّعوةَ إلى تأصيلِهِ في سلوكِ
الإنسانِ عن طريقِ الثقافةِ المكتسبةِ والدعوةِ إلى سلمٍ وسلامٍ عالميٍّ هي دعواتٌ
خياليّةٌ يدحضُها التّاريخُ ويُبرهنُ عليها الواقعُ، ولن تكونَ في المستقبلِ، إلى
أنْ يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.
ولهذا شرَع اللهُ تعالى الجِهادَ
لِنُصرةِ دِينِه، وهو باقٍ إلى قِيامِ السَّاعةِ، لا يُبطِلُه شَيءٌ، ولا تَزالُ
طائفةٌ مِن المؤمِنين على الحَقِّ يُظهِرُهم اللهُ تعالى على الجَميعِ مصداقًا
للحديث الشريف: «...
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ:
كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَقَالُوا: لَا جِهَادَ، قَدْ
وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِوَجْهِهِ
وَقَالَ: كَذَبُوا الْآنَ، الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي
أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ
أَقْوَامٍ، وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَحَتَّى يَأْتِيَ
وَعْدُ اللَّهِ، وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْر مُلَبَّثٍ،
وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ،
وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ». ([26])
* جبر الهلول دكتوراه في التاريخ والحضارة متخصص
في اليهودية والصهيونية.
([4]) المركز الديمقراطي العربي: ريناس بنافي: توماس هوبز وماهية طبيعة الإنسان، 27.
ديسمبر 2016
https://democraticac.de/?p=41715
([6]) المركز الديمقراطي العربي: ريناس بنافي: توماس هوبز وماهية طبيعة الإنسان، 27.
ديسمبر 2016
https://democraticac.de/?p=41715
([13]) موقع تبيان الالكتروني: خالد موسى،
طبيعة الحرب وحتمية الصراع بين القرآن والغرب، 6 أغسطس، 2018
https://tipyan.com/the-nature-of-war-and-the-inevitability-of-conflict
([16]) موقع تبيان الالكتروني: خالد موسى،
طبيعة الحرب وحتمية الصراع بين القرآن والغرب، 6 أغسطس، 2018
https://tipyan.com/the-nature-of-war-and-the-inevitability-of-conflict
([17]) (أخرجه البخاري معلقاً بصيغة التضعيف
قبل حديث (2914) مختصراً، وأخرجه موصولاً أحمد (5667) واللفظ له).
([22])
زئيف جابوتنسكي فلاديمير: «أديب، وصحفي، خطيب لامع، ومؤسس
الحركة الإصلاحية ورئيسها ومدير العمل
السياسي
المستقل، ولد في روسيا عام 1880. وتوفي في الولايات
المتحدة الأمريكية عام 1940. وقد نقلت رفاته
إلى إسرائيل
ودفنت في جبل هرتسل في القدس عام 1964». أفرايم ومناحم تلمي: معجم المصطلحات
الصهيونية،
ص 187.
([23]) إبراهيم العابد: العنف والسلام في الاستراتيجية
الصهيونية، دراسات فلسطينية العدد 10، منظمة التحرير
الفلسطينية مركز الأبحاث آذار 1968، ص 11.